جدوى آلية سعر الفائدة
إذا الفائدة هي عين الربا. كما أنها تعد في رأي جمهور من الاقتصاديين الغربيين، السبب الرئيس في سوء تخصيص واستخدام الموارد، وبالتالي تعد مسئولة عن "عدم الاستقرار" النقدي والمالي والاقتصادي في الاقتصاد المعاصر.
ولعل الأزمة الاقتصادية العالمية التي نعيشها شاهد صارخ على ذلك. فلقد توصل "إنزلر" و"كونراد" و"جونسون"، بناء على دراسات ميدانية، إلى حقيقة أن رأس المال في الاقتصاديات المعاصرة قد أسيء تخصيصه إلى حد خطير بين قطاعات وأنشطة الاقتصاد وأنواع الاستثمارات –في الأساس- بسبب سعر الفائدة. فالفائدة من وجهة نظرهم أداة رديئة ومضللة في تخصيص الموارد، لأنها تتحيز بصفة رئيسة للمشروعات الكبيرة على أساس "افتراض" غير مدروس بجدارتها الائتمانية. ومن ثم، تعزز هذه الأداة الاتجاهات الاحتكارية. فالمشروعات الكبيرة بحجة ملاءتها تحصل في الواقع على قروض أكبر بسعر فائدة أقل، بينما العكس تماما بالنسبة للمشروعات المتوسطة والصغيرة، التي يمكن أن تكون ذات إنتاجية أعلى وكفاءة أكبر وملاءة أفضل، فتحصل هذه المشروعات على قروض أقل بكثير من احتياجاتها وبأسعار فائدة أعلى بكثير من طاقاتها. وعلى هذا الأساس، وبدون دراسات جادة تذكر في ظل نظام الفائدة الثابت والمضمون، لا تنفذ الاستثمارات الأعلى جدوى والأكثر إدرارا للعائد المتوقع، بسبب عدم القدرة على التمويل الذي يذهب إلى مشروعات أقل إنتاجية، بل أقل حاجة نسبيا إلى التمويل من خارجها، ولكنها أقواها سلطة وأكثرها نفوذا.
بل أكثر من ذلك، أكدت استقصاءات أجراها "ميد" و"أندروز" أن رجال الأعمال يعتقدون أن سعر الفائدة ليس عاملا يذكر في تحديد قرار ومستوى الاستثمار، أي أن الطلب على الاستثمار يعد "غير مرن" بالنسبة لسعر الفائدة، وذلك لعدة أسباب. منها كون سعر الفائدة يمثل نسبة ضئيلة من نفقة إحلال الاستثمار الجديد خاصة في حالة التقادم السريع، ومنها اعتماد كثير من المشروعات على التمويل "الذاتي"، مما يجعل أثر سعر الفائدة كنفقة ضمنية على المال المستثمر محدودا، ومنها أيضا في حالة الكساد الحاد، تكون توقعات المنتجين والمستثمرين بالنسبة لمستقبل النشاط الاقتصادي متشائمة، ومن ثم لن يقدموا على الاستثمار، حتى لو كانت تكلفته، أي سعر الفائدة، صفرا.
وبالنسبة لعرض الأموال القابلة للاستثمار، أي الادخار، يرى جمهور الاقتصاديين مع "كينز" أنه "غير مرن" عادة لسعر الفائدة. وتشير الدلائل الإحصائية إلى عدم وجود رابط إيجابي كبير بين الفائدة والادخار. وحتى لو افترضنا وجود هذا الترابط، أي وجود تفضيل زمني إيجابي قوي لدى جمهور المستهلكين، كما يعتقد الكثير من الاقتصاديين، فإن "إصرار" أصحاب الأموال، أي المدخرين، على الفائدة "الثابتة" المضمونة يعد –خاصة في الاقتصاديات التي تتعرض لموجات تضخمية متصاعدة- أمرا غير منطقي وغير مفهوم. لأن هذا يعني ببساطة إصرارا غريبا من مدخرين غاية في الغرابة على استمرار انخفاض –إن لم يكن انهيار- مستوى معيشتهم نتيجة الأثر التآكلي المتزايد للتضخم على أموالهم، "فالسعر الحقيقي" للفائدة، أي السعر الأسمى ناقصا التضخم، يصبح إن عاجلا أو آجلا "سالبا"، وبمعدلات متزايدة خلال الزمن، أي أن الأموال الحقيقية لهؤلاء المدخرين تتناقص باستمرار من عام لآخر.
وليس الوضع أفضل حالا إذا ما تغيرت أسعار الفائدة. إذ يقع الظلم نتيجة هذا التغير تارة على المستثمرين (المقترضين) وتارة على المدخرين (المقرضين)، مما يؤدي في النهاية إلى تباطؤ التكوين الرأسمالي. كما أكدت ذلك دراسة قام بها "ليبلنج" للتجربة الأميركية، خلال الفترة 1970-1978. فارتفاع أسعار الفائدة كان مانعا كبيرا من الاستثمار، وانخفاضها شجع على الاقتراض للاستهلاك، وعلى تدني نوعية الاستثمار. وأدى في النهاية، كما أكد أحد تقارير "الجات" إلى سوء استخدام رأس المال، وإلى هبوط مستمر في معدل التكوين الرأسمالي.
ويؤكد عدد ليس بالقليل من الاقتصاديين أن سعر الفائدة يعد من أهم عوامل "عدم الاستقرار" في الاقتصاديات المعاصرة. فمثلا، يتساءل "فريدمان"، أبو الاقتصاد النقدي المعاصر، في الثمانينات من القرن الماضي، عن "أسباب السلوك الطائش الذي لم يسبق له مثيل للاقتصاد الأميركي"، ويرد على تساؤله بالقول "إن الإجابة التي تخطر على البال هي السلوك الطائش المساوي له في أسعار الفائدة" فالتقلبات في سعر الفائدة تؤثر مباشرة في الأسواق المالية، فيسودها قدر كبير من الشكوك، مما ينعكس أثره في تقلبات حادة وغير محسوبة في النشاط الاقتصادي الحقيقي.
ويرجع "سيمونز" السبب الأساسي للكساد العالمي العظيم في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي إلى "تغيرات الثقة التجارية الناشئة عن نظام ائتماني غير مستقر". وأكد اعتقاده بأن خطر الاضطراب الاقتصادي يمكن تفاديه إلى حد كبير، إذا لم يتم اللجوء إلى الافتراض، ولا سيما قصير الأجل، وإذا ما تمت الاستثمارات كلها في شكل تمويل ذاتي، وبالمشاركة، أي من خلال أدوات ملكية الحصص والأسهم. وحول المعنى نفسه، شدد "مينسكي" على حقيقة أن قيام كل مشروع بالتمويل الذاتي لرأسماله العامل، والتخطيط الرشيد لاستثمار أرباحه غير الموزعة، يفرز نظاما ماليا قويا، ولكن لجوء المنتجين إلى التمويل عن طريق الاقتراض يعرض النظام لعدم الاستقرار. ولقد أيد ذلك "ميلر" من خلال دراسة ميدانية، وأكده "تيرفي" بقوله أن سعر الفائدة لا يصلح، ولم يكن مناسبا لقرارات الاستثمار. وعليه، فهو يرى وجوب أن يحل محله سعر الأصول الحقيقية الموجودة، أو المستوى العام لأسعار الأسهم، ومن ثم تكون لدينا نظرية عامة تحتل فيها أسعار الأصول الحقيقية، لا الأصول الورقية، مركز الصدارة. إذن، فالآلية الحقيقية هي "الربح" وليس "الفائدة". وهذا ما أكده الاقتصاد الإسلامي، وقامت عليه المصرفية الإسلامية، ويتأسس عليه التمويل الإسلامي.
التمويل الإسلامي.. طبيعة عمل البنوك الإسلامية
"
يقوم البنك الإسلامي بكل أساسيات العمل المصرفي الحديث كوسيط مالي يرتبط مباشرة بالاقتصاد الحقيقي العيني، وذلك وفقا لأحدث الطرق والأساليب الفنية لتسهيل التبادل التجاري وتنشيط الاستثمار الحقيقي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع ما لا يتنافى مع الأحكام الشرعية
"تأسيسا على حرمة الربا، وعلى حقيقة أن "الفائدة هي عين الربا"، واتساقا مع أن الآلية ذات الجدوى لإدارة النشاط الاقتصادي المعاصر هي "الربح" وليس الفائدة، إيمانا –قبل ذلك وبعده- باستحالة أن يكون فيما حرمه الله سبحانه شيئا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه، قام التمويل الإسلامي من خلال المصرفية الإسلامية، أي البنوك الإسلامية. وهذه البنوك تعد نوعا خاصا من البنوك المتخصصة، سواء من حيث طبيعتها، أو من حيث تفاصيل عملها. فهي تقترب من بنوك الاستثمار والأعمال، أو بنوك التنمية، ولكنها أيضا تقبل الودائع الجارية. فهي بمثابة "البنوك الشاملة".
ولقد نشأت ضرورة إخراج فكرة هذه البنوك إلى حيز التنفيذ من الحرص على تأكيد الأمور التالية:
وعليه، يقوم عمل البنوك الإسلامية على ركيزتين: الأولى، فنية، وتتمثل في الوساطة بين المدخرين والمستثمرين، والثانية، شرعية، وتعني أن تتم هذه الوساطة وفقا للضوابط الشرعية. وتتحدد طبيعة عمل البنك الإسلامي وفقا للمبادئ الرئيسية التالية:
وعلى أساس هذه المنطلقات والمبادئ، يقوم البنك الإسلامي بكل أساسيات العمل المصرفي الحديث كوسيط مالي يرتبط مباشرة بالاقتصاد الحقيقي العيني، وذلك وفقا لأحدث الطرق والأساليب الفنية لتسهيل التبادل التجاري وتنشيط الاستثمار الحقيقي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع ما لا يتنافى مع الأحكام الشرعية. وعلى ذلك، يحل نظام "المشاركة في الربح والخسارة"، وفقا لصيغ الاستثمار الإسلامي محل نظام "المداينة بفائدة"، وتبرز أهمية الودائع الاستثمارية، كما يتعاظم شأن محفظة الأوراق المالية الإسلامية، سواء لغرض السيولة أو الاستثمار، وبالتالي تظهر الطبيعة الإنمائية لكل أنشطة البنك.
ويمكن تبيان طبيعة عمل البنك، بصورة مبسطة، من خلال تطبيق مزدوج لعقد "المضاربة" الشرعي. وهذا العقد هو نوع من الشركة في الربح بين طرفين: رب المال، والعامل في المال أ المضارب، على أن تكون حصة كل منهما جزءا شائعا معلوما متفقا عليه ابتداء عند التعاقد. فمثلا، إذا تحقق الربح يكون لرب المال (50%) وللمضارب (50%) أو (60%) للأول و(40%) للثاني، أو العكس، كما يتفقا، على أساس المبدأ الإسلامي القائل "المؤمنون عند شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا". وإذا وقعت خسارة يتحملها بالكامل رب المال، وهذا هو شق المخاطرة الذي يحل نصيبه في الربح إذا تحقق، ويخسر المضارب جهده، وهذا أيضا يمثل المخاطرة التي تبرر نصيبه في الربح إذا تحقق. فالطرفان يخاطران، الأول بماله، والثاني بجهده. والمضارب في حكم الوكيل، أمين على المال، أي يده "يد أمانة"، لا يضمن إلا إذا قصر أو بدد. ويجوز لرب المال أن يأخذ "رهنا" من المضارب، حتى يستوفي حقه منه في حالة التقصير أو التبديد.
وبتطبيق هذا العقد تطبيقا مزدوجا ليحكم العلاقة بين البنك وعملائه في جانبي الموارد أو الخصوم، والاستخدامات أو الأصول، نجد أن التطبيق الأول في جانب الموارد يكيف العلاقة بين المودعين والبنك على أساس "عقد المضاربة"، حيث يكون المودعون "أرباب أموال"، ويكون البنك "مضاربا". والبنك كمضارب يعد وكيلا، أي أمينا على ما بيده من مال، أي يده "يد أمانة"، فلا يضمن إلا إذا قصر أو بدد. ويجوز للبنك أن يأخذ "رهنا" لاستيفاء حقوقه في حالة التقصير أو التبديد، حفاظا بالطبع على أموال المودعين. والفرق بين مجموع الأرباح التي يحصل عليها البنك من مضارباته مع عملائه مستخدمي الأموال، وما يدفعه للمودعين من أرباح وفقا لعقد المضاربة الذي يحكم علاقته معهم، يمثل "صافي" الربح أو عائد البنك.
صيغ وأساليب الاستثمار الإسلامي
وبالرغم من أن هيكل موارد البنك الإسلامي في الواقع العملي يتماثل إلى حد كبير مع هذه الصورة المبسطة، فإن هيكل استخدامات البنك لموارده يتسم بدرجة من التفصيل والتعقيد، حيث لا يقتصر على عقد المضاربة، بل يشمل العديد من صور "الاستثمار المخاطر" لآجال مختلفة، وفقا لصيغ وأساليب استثمار، مؤسسة على العقود الشرعية، التي بسطها فقه المعاملات المالية، والتي تتكون من ثلاث مجموعات من العقود، وهي: عقود الشركة، وعقود البيوع، وعقود الإجارة.
- عقود الشركة
فبالنسبة لعقود الشركة، تهتم البنوك الإسلامية تشغيليا فيما يتصل بالثروة الفقهية حول هذه العقود بنوع من " شركة الأموال"، وهي "شركة العنان"، حيث لا يتساوى وفقا لهذا النوع الشريكان لا في رأس المال، ولا في التصرف. ويشتركان في الربح بنسب معلومة متفق عليها، ويتحملان الخسارة بقدر حصصهما في رأس المال. ويسمى هذا النوع بشركة العنان حيث يشترط كل من الشريكين على صاحبه ألا يتصرف إلا بإذنه. فكأنه يأخذ بعنانه، أي ناصيته ألا يفعل فعلا إلا بإذنه، كما يمنع العنان الدابة. وهذه الشركة هي التي بُني عليها، وتفرع منها عقود "المشاركات" المستخدمة في البنوك الإسلامية.
المشاركات
وعليه، تنبثق من عقود الشركة صيغ "الاشتراك عن طريق خلط الأموال" أو "المشاركات" بآجالها وأنواعها المختلفة، حيث يتحمل المشاركون نتائج الأعمال ربحا على أساس نسب معلومة متفق عليها، وخسارة بحسب نسب مساهماتهم في رأس المال. ويجوز أن يتفق الشركاء على أن يشتري أحدهما حصة شريكه أو جزء منها. كما يجوز الاتفاق على توزيع الربح دوريا قبل انتهاء الشركة، سواء كله أو بعضه. وتتعدد أشكال المشاركات التي يقوم بها البنك الإسلامي، وفقا للشكل والمعيار المتبع والهدف من المشاركة. فنجد مثلا.
وفقا لطبيعة الأصول الممولة: مشاركات جارية ومشاركات رأسمالية.
وفقا لاستمرار ملكية البنك: مشاركات ثابتة ومشاركات متناقصة.
وفقا لأجل المشاركة: مشاركات قصيرة الأجل ومشاركات طويلة الأجل.
وفقا لاسترداد التمويل: مشاركات مستمرة ومشاركات منتهية.
وفقا للغرض أو مجال التمويل: مشاركات تجارية، أو صناعية، أو مقاولات، أو استيراد أو تصدير.. إلخ.
وتعتبر المشاركات إحدى أهم أساليب الاستثمار في البنوك الإسلامية، حيث تتيح للبنك توظيف موارده المالية والحصول على عائد، وتتيح للعميل المشارك الحصول على تمويل جزئي حلال لمشروعه. هذا، وإن كان نصيب المشاركات في إجمالي استثمارات البنك الإسلامي ما زال محدودا نسبيا لاعتبارات مختلفة منها: السيولة والمخاطر العالية والمتطلبات الإشرافية والرقابية عند التنفيذ.
صيغ الأرباح:
يقصد بهذه الصيغ التعاقد بين طرفين حيث يقدم أحدهما المال إلى الطرف الآخر ليعمل فيه مع الاشتراك في النتائج. فهي مشاركة بين المال والعمل. وأولى هذه الصيغ هي "المضاربات" بآجالها وأنواعها المختلفة، حيث تشمل:
<blockquote style="margin: 1em; padding: 0px;"><blockquote style="margin: 1em; padding: 0px;"><blockquote style="margin: 1em; padding: 0px;">
"المزارعة": تندرج تحت صيغ "الاسترباح" عقود "المزارعة" أو المزارعات، حيث يقدم طرفا واحدا أرضا، وينفرد الطرف الآخر المزارع، بالتصرف والإرادة، أي: بزراعتها، ويشترك الطرفان في الناتج بالنسب المتفق عليها بينهما مسبقا. وإذا لم تُخرج الأرض شيئا، يخسر صاحب الأرض منفعة أرضه، ويخسر المزارع عمله.
"المساقاة": تشمل هذه الصيغ أيضا عقود "المساقاة" أو المساقات، بالشروط نفسها مع استبدال الأشجار بالأرض.
وعليه، فالمضاربة شركة في "الربح" والمزارعة شركة في "الزرع" والمساقاة شركة في "الثمرة".
</blockquote></blockquote></blockquote>