يتكون الاقتصاد الإسلامي المعاصر من شقين: حقيقي ومالي، ويتمثل الشق الحقيقي من الاقتصاد العيني، أي القطاعات الإنتاجية –السلعية والخدمية- من زراعة وتعدين وصناعة وتشييد وبناء وصحة وتعليم ونقل وتخزين وغيرها. ويتشكل المالي من النظام المصرفي، الذي يشم البنك المركزي والمؤسسات النقدية، أي: البنوك وشركات التأمين وسوق المال. وتتكون البنوك من بدورها من بنوك تجارية وبنوك متخصصة "استثمارية" بالأساس، وأي خلل في أحد الشقين ينتقل بالضرورة إلى خلل مماثل بل أعمل في الشق الآخر.
وينتهي الأمر، إذا لم تعالج هذه الاختلالات بصورة جادة وشاملة، إلى دخول الاقتصاد في حالة "ركود" حاد، تزداد حدة مع الزمن. ولعل هذا ما حدث ويحدث الآن للاقتصاد العالمي.
فنحن نعلم أن النظام المصرفي بالنسبة للاقتصاد المعاصر بمثابة القلب من الجسد، وأن النقود، أي: السيولة، تعد بمثابة الدم الذي يضخه القلب المصرفي في عروق، أي أنشطة، هذا الجسد الاقتصادي. ولضمان هذه الوظيفة الحيوية والحياتية يفترض أن تخضع كافة المؤسسات النقدية لإشراف ورقابة البنك المركزي. فالعمل المصرفي يقوم بصفة رئيسية على "الوساطة المالية" بين المدخرين والمستثمرين, ويتأسس هذا العمل على "قواعد" الفن المصرفي. ومن هنا، تأتي الأهمية القصوى لدور البنك المركزي في التأكد من حرص المؤسسات النقدية على الالتزام بهذه القواعد.
قواعد الفن المصرفي
تشخيص الأزمة
محاولات المعالجة
البديل الإسلامي للمعالجة
طبيعة الاقتصاد الإسلامي
الربا والفائدة المصرفية
جدوى آلية سعر الفائدة
التمويل الإسلامي.. طبيعة عمل البنوك
صيغ وأساليب الاستثمار الإسلامي
جدوى التمويل الإسلامي
قواعد الفن المصرفي
"
من أهم وظائف البنك المركزي الإشراف والرقابة على أن البنوك تتقيد بقواعد الفن المصرفي: كسياسة إدارة السيولة والربحية، وسياسة إدارة مخاطر الائتمان أو التمويل وسياسة كفاية رأس المال،
وتلتزم بصرامة في عملها سواء أكانت بنوكا تقليدية، أو إسلامية
"وتشمل هذه القواعد: المواءمة بين الثقة أو السيولة من ناحية، والعائد أو الربحية من ناحية أخرى. فالبنك كمشروع اقتصادي يجب أن يحقق ربحا لأصحابه المساهمين، وكمشروع اقتصادي من نوع خاص بحسب طبيعة نشاطه، وهي التعامل في "الائتمان". أو "التمويل"، يجب أن يحافظ على حد معين من السيولة في أصوله حتى يكتسب ثقة المتعاملين معه بأنه يستطيع أن يلبي طلباتهم بالدفع نقدا عند الطلب، أو بعد ترتيبات معينة: وعليه وفقا لهذه القاعدة، يشكل البنك مجموع أصوله بما يضمن له السيولة الكافية مع الربح المناسب، وعادة ما تتراوح نسبة الأصول السائلة ما بين (30%) إلى (40%) من مجموع الأصول الكلية للبنك.
وتتمثل القاعدة الثانية في إدارة "جيدة" لمخاطر الائتمان أو التمويل. فبالنسبة قليلة السيولة أو المثمرة، يجب على البنك أن يتوخى في تكوينها تقليل المخاطر قدر الإمكان. فيكون محفظة أوراقه المالية من أوراق "جيدة" ويختار عملاءه "المقترضين" أو "المشاركين" بدقة وفقا لمعايير معروفة من استعلام عن العميل، خاصة مركز المالي وسمعته الائتمانية أو المالية، بل سمعته الشخصية بالإضافة إلى أخذ ضمانات كافية، أي رهن يغطي قيمة القرض أو التمويل، إن لم يزد عنها، للرجوع إليه عند عدم السداد في تاريخ الاستحقاق، هذا ما يطلق عليه: "إدارة مخاطر الائتمان أو التمويل".
وأخيرا، تعني القاعدة الثالثة لضمان إدارة رشيدة للبنك أن تكون موارده الذاتية، أي رأس ماله المدفوع والاحتياطات والمخصصات، "كافية لمقابلة المخاطر المحتملة لقروض أو "التزامات" رديئة، أي مشكوك فيها أو معدومة، على أن تشكل هذه الموارد نسبة تتراوح بين (8%) إلى (15%) من إجمالي الأصول عالية "المخاطر".
إذا، من أهم وظائف البنك المركزي الإشراف والرقابة على أن البنوك تتقيد بهذه القواعد، وتلتزم بصرامة في عملها بهذا المتطلبات، سواء أكانت بنوكا تقليدية، أو إسلامية. ونسمي هذه القواعد في العرف المصرفي بعناصر أو قواعد "الفن المصرفي" أو السياسات المصرفية. وعليه، هذه السياسات هي: سياسة إدارة السيولة والربحية، وسياسة إدارة مخاطر الائتمان أو التمويل وسياسة كفاية رأس المال.
تشخيص الأزمة
"
أفرطت المؤسسات النقدية وبخاصة بنوك الاستثمار في تقديم كم ضخم للغاية من القروض للأفراد في مجال الرهن العقاري بالذات دونما دراسات استعلامية تذكر عنهم ودون اعتبار للسيولة وكفاية رأس المال مما أدى إلى تعثر الكثير من المقترضين عن السداد
"والأزمة التي يعيشها العالم الآن وبعامة، وتعيشها الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية بخاصة، نجمت عن عدم الالتزام غير المسؤول، بل المتعمد، بهذا المتطلبات من قبل البنوك، وبخاصة بنوك الاستثمار، ومن الإهمال غير المسؤول بل عدم الاكتراث الذي يكاد يكون متعمدا طوال السنوات السبع الماضية، بحجة "حرية" العمل المصرفي أو عدم التنظيم "ديريجيولشن" من قبل الاحتياطي الفيدرالي، أي: البنك المركزي الأمريكي والبنوك المركزية الأوروبية، في القيام بواجباتها الإشرافية والرقابية والتفتيشية، لدرجة أن غالبية العمل المصرفي أي أكثر من (75%) كان يتم "خارج الميزانية"، أي بعيدا عن أية رقابة، إعمالا لليبرالية الجديدة، وتوافق "واشنطن".
ومن ثم، وقعت الأزمة المالية الحادة في الاقتصاد الأمريكي، والتي امتدت إلى الاقتصاديات الأوروبية، فاقتصاديات آسيا واليابان والصين، ثم الاقتصاديات النامية وتنذر الأزمة، رغم خطط الإنقاذ، بعد أن دخلت هذا الاقتصاديات في مرحلة "ركود" حاد بكساد عالمي يصغر أمامه تماما "الكساد العالمي العظيم" في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي.
فجريا وراء أقصى ربح وأسرعه أفرطت المؤسسات النقدية وبخاصة بنوك الاستثمار في تقديم كم ضخم للغاية من القروض للأفراد في مجال الرهن العقاري بالذات دونما دراسات استعلامية تذكر عنهم ودون اعتبار للسيولة وكفاية رأس المال مما أدى إلى تعثر الكثير من المقترضين عن السداد في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار العقارات ومن ثم غرق المواطنون في الديون وانتزعت البيوت منهم مما أدى إلى زيادة العرض فمزيد من انخفاض في أسعار العقارات وعليه أصبحت المؤسسات النقدية على مشارف الإفلاس.
وساعد على هذا الوضع المتأزم العديد من العوامل أهمها:
<blockquote style="margin: 1em; padding: 0px;">
شبه غياب الرقابة من قبل السلطات النقدية على العمل المصرفي خاصة بنوك الاستثمار والتي لم تتقيد بالقواعد المصرفية رغم علم السلطات بهذه الحقيقة.
اشتداد المضارات أي:المقامرات المحمومة في "وول ستريت" وأسواق المال في أوروبا وبقية دول العالم والتي تصاعدت بلا ضابط ولا رابط ولا منطق مما أدى على تقلص الثقة في السوق وبالتالي في الاقتصاد.
انتشار استخدام أدوات مالية مبتكرة لمقابلة جشع البنوك الاستثمارية وتلبية نهمها لتحقيق أقصى الأرباح من خلال الاستثمار المالي الورقي دونما ارتباط يذكر بالاقتصاد العيني. هذه الأدوات المالية هي المشتقات: المستقبليات والخيارات والتحوطات ضد تغيير سعر الفائدة (الربا) أي المتاجرة في المخاطر. فقامت البنوط باستخدام هذه الأدوات ببيع القروض العقارية وغيرها من القروض المشكوك فيها في شكل أوراق مالية وباشتقاق أوراق مالية أخرى من هذه الأوراق وهكذا العدد من المرات من خلال عملية "توريق" أو "تسنيد" لديون عقارية رديئة أصلا: ومن ثم بيع مالا يُملك، وبيع الدين بالدين من خلال فائدة ربوية و"غرر"، أي: جهالة كبيرة.
فساد الإدارة العليا في كثير من هذه المؤسسات مما جعلها لا تهتم كثيرا بالقواعد المصرفية قدر اهتمامها بالمرتبات والمزايا الخيالية التي تتقاضاها وتتمتع بها (مثال على ذلك مرتبات ومكافآت رئيس بنك "ليمان براذر" والتي بلغت 486 مليون دولار عن عام 2007 وعملية "مادوك" في النصب الاستثماري والتي بلغت 50 مليار دولار).
</blockquote>هذه العوامل أدت إلى تورم اقتصادي خادع ومخادع ولد "فقاعة" مالية هائلة انفجرت في بنوك الاستثمار والرهن العقاري وامتد صداها في صورة زلزال مالي في أسواق الأوراق المالية على مستوى العالم لدرجة أن البعض وصف هذا الانفجار بأنه "بيرل هاربر اقتصادية". وسقط مبدأ "الدولة الحارسة"، غير المتدخلة وتدخلت الحكومات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال التأميم أو المساندة المالية المباشرة، ومع ذلك بلغت البنوك التي أفلست نحو عشرين بنكا وأكثر من (70) شركة رهن عقاري في التجربة الأميركية وحدها، وانتقلت عدوى التأميمات والإفلاسات إلى دول أوروبا الغربية، وبخاصة إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا ولكسمبرج وأيسلندا، ثم في بقية دول العالم بدرجات تتفاوت من حيث الحدة وفقا لارتباطها بقاطرة الاقتصادي العالمي، وهو الاقتصاد الأميركي.
ووصل النظام المصرفي الأميركي في النهاية إلى درجة من فقدان "الثقة" أدت إلى حالة "تجمد ائتماني" فلا يوجد أي إقراض أو اقتراض بين البنوك، ولا يوجد أي إقراض لقطاع الأعمال أو المستهلكين، ومن ثم، توجد حالة شلل يكاد يكون كاملا في التيارات النقدية "المحركة" للتيارات الحقيقية، أي للنشاط الاقتصادي العيني خاصة، إذا أضفنا على ذلك الإحجام شبه الكامل من المستهلك الأميركي عن الإنفاق خوفا من المستقبل، واحتياطا للطوارئ.
وهنا كانت بداية الانهيار الكبير، ليس في أسواق المال فحسب، وإنما أيضا في أساسيات الاقتصاديات، أي الاقتصاديات العينية. ولقد ظهر ذلك بوضوح شديد في صناعة مفصلية، وهي صناعة السيارات، في التجارب الأميركية والإنجليزية واليابانية والألمانية والإيطالية والفرنسية. ووصل مثلا عدد العاطلين في الاقتصاد الأميركي، منذ انفجار الأزمة وحتى الآن ما يقرب من خمسة مليون عاطل، وفي الاقتصاد الصيني نحو ثلاثين مليون عاطل.
محاولات المعالجة
"
تتلخص جذور الأزمة في فوضى الجهاز المصرفي و لإعادة الانضباط يجب تقويم وتطوير قواعد عمل الوحدات المصرفية وأدوات الرقابة عليها، ومحاسبة المسئولين عن الأزمة، ثم العودة إلى سياسات مصرفية منضبطة حول السيولة والعائد، ومخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال، ووقف المضاربات
"ولعل هذا الذي دفع حكومات دول العالم إلى التدخل لمحاولة الحد من الآثار السلبية الحادة على الاقتصاد والمجتمع، ففي التجربة الأميركية، كانت خطة الإنقاذ في أواخر ولاية "بوش" ثم تبعتها خطة "أوباما". وبلغ إجمالي الخطتين ما يقرب من (1.5) تريليون دولار، فإذا أضفنا (1.5) تريليون دولار مساعدات إنقاذ لبنوك وشركات تأمين، وما يقرب من تريليون دولار لمساعدة الوحدات الإنتاجية في الاقتصاد العيني، تكون الأموال التي ضخت ويتوقع ضخها في الاقتصاد الأميركي نحو (4) تريليون دولار. وتم ضخ ما يقرب من هذا القدر في الاقتصاديات الأوروبية وبقية اقتصاديات العالم. ومع ذلك، فهذه السياسات الإنقاذية، في رأي كثير من المتخصصين، لا تعالج جذور الأزمة ومسبباتها، وإنما تتصدى لأعراضها ومظاهرها، وبالتالي قد لا تحدث الأثر المطلوب والمأمول.
وتتلخص جذور الأزمة في فوضى الجهاز المصرفي. وعليه، لإعادة الانضباط إلى هذا الجهاز كي يؤدي وظيفته الحيوية يجب تقويم وتطوير قواعد عمل الوحدات المصرفية وأدوات الرقابة عليها، ومحاسبة المسئولين عن هذه الأزمة، ثم العودة إلى سياسات مصرفية منضبطة حول السيولة والعائد، ومخاطر الائتمان، وكفاية رأس المال، ووقف المضاربات، أي المقامرات، وبخاصة المشتقات والاستمرار في ضخ السيولة في شرايين الاقتصاد حتى لا تنهار أساسيات القاعدة الإنتاجية.
نحن هنا لا نتكلم عن بازل (1) وبازل (2)، ولكننا بالقطع نتكلم عن بازل جديدة تماما، وعن نظام مالي عالمي جديد.
إذ أن الأزمة تجاوزت "كل" الترتيبات السابقة، بما في ذلك اتفاقية "بريتون وودز"، والتي كانت تهدف إلى تحسين أداء الأنظمة المصرفية، والنظام المالي العالمي. ولعل القمم الأوروبية، والأوروبية الآسيوية، والأوروبية الأميركية مع بعض الدول النامية، وأخيرا قمة مجموعة العشرين لبحث الإصلاح المصرفي والمالي في العالم تسير إلى هذا الاتجاه.
ولقد جاءت بالذات قرارات قمة مجموعة العشرين التي عقدت أخيرا، "إبريل 2009"، في لندن لتشدد على ضرورة إحكام الرقابة والتفتيش على الوحدات المصرفية من قبل السلطات النقدية، والشفافية في العمل المصرفي، ومحاربة الفساد في الجهاز المصرفي، والحد من المضاربات، أي المقامرات، المحمومة، والنظر في مرتبات ومكافآت القيادات المصرفية بما يكفل كفاءة الأداء والحد من الاستغلال، واستمرار ضخ السيولة في شرايين الاقتصاد، ودعم صندوق النقد الدولي لكي يقوم بمساعدة الاقتصاديات المتضررة من الأزمة، وبالذات اقتصاديات الدول الفقيرة، وأخيرا تشكيل لجنة لدراسة النظام المالي العالمي والتقدم بمقترحات لإعادة هيكلته ورفه كفاءته.
وبالرغم من أهمية هذه القرارات، والتي يتوقف أثرها في النهاية على جدية وصرامة التطبيق يبقى البعد الإسلامي أي التمويل الإسلامي، كمخرج عملي تشغيلي فاعل من هذه الأزمة، وكعلاج ناجع لجذورها ومسبباتها، غائبا تماما من قرارات هذه اللجنة. وعليه، تقدم هذه الورقة نبذة مختصرة عن هذا البديل العملي، لعل السلطات النقدية في كل دولة من دول عالمنا المعاصر، إن لم تكن قد فكرت بالفعل في الأخذ به، أن تأخذ به، ولو جزئيا، لترميم وتصحيح ما تمارسه في عملية تمويل الاقتصاد الحقيقي.
البديل الإسلامي للمعالجة
بداية، لا يرفض البديل الإسلامي جوهر المعالجات المطروحة على المستوى القطري، أو على الصعيد العالمي من ضرورة رفع كفاءة الجهاز المصرفي لكي يؤدي وظيفته الحيوية في حشد الأموال من المدخرين وتوظيفها في استثماراتها حقيقية في الاقتصاد العيني، وقيام السلطات النقدية أي البنك المركزي، بدورها الرقابي والتفتيشي على تنفيذ السياسات المصرفية، واستمرار ضخ السيولة في شرايين الاقتصاد حفاظا على القاعدة الإنتاجية وتنميتها، وإعادة للثقة في السوق، والعمل على إصلاح النظام المالي الدولي ودعم مؤسساته، وأخيرا محاربة جادة ومستمرة للفساد في الأجهزة المصرفية.
بجانب هذه الإجراءات، بل قبلها، يؤكد البديل الإسلامي على ضرورة معالجة جذور الأزمة ومسبباتها الرئيسة بالبعد، تدريجيا، عن "الفائدة"، أي "الربا"، باستبدال نظام "المشاركة في الربح والخسارة" بنظام "المداينة بفائدة"، والاستثمار الحقيقي في الاقتصاد العيني بالاستثمار المالي الورقي في الاقتصاد الرمزي، مما يعالج المضاربات، أي المقامرات، في التعامل، ويوقف البيوع الضارة، كبيع الدين بالدين، وبيع الإنسان لما لا يملك، ويحد كثيرا من الغرر، أي الجهالة الكبيرة في العقود، ويحارب عمليا كل صور الفساد والإفساد في النشاط الاقتصادي، فيعيد للنقود طبيعتها "كأداة" لتسهيل التبادل الاقتصادي، وليست "سلعة" يُتاجر فيها.
طبيعة الاقتصاد الإسلامي
والتمويل الإسلامي جزء من الاقتصاد الإسلامي، فكرا ونظاما وتعد الاعتبارات القيمية أو الأخلاقية متغيرا داخليا أساسيا في آلية النظام.
بل تعتبر "القيم" الإسلامية المحرك الرئيس لفاعليته فهو اقتصاد "محمل" بالقيم، وليس بالقطع "محررا" منها، فهو اقتصاد يستند في تحليله على الإنسان الأخلاقي واليد المتوضئة واقعيا، وليس على "الرجل الاقتصادي" واليد الخفية نظريا كما في النظام الرأسمالي، أو " الترس الاجتماعي" واليد الباطشة أيديولوجيا كما في النظام الاشتراكي. وعليه، يقوم الاقتصاد الإسلامي على ركيزة أخلاقية واضحة، أو "شفرة أخلاقية" أضاعتها الأنظمة الوضعية منذ زمن بعيد، كما يؤكد بعض الكتاب الغربيين، تهدف إلى الاهتمام الأكبر "بالناس". ومن ثم، جاء الإسلام ومنهجه في الاقتصاد والتنمية والتمويل حربا جادة ومستمرة وناجحة على كل صور الظلم الاقتصادي، أي الاستغلال والمستغلين من خلال تحريم صريح وقاطع: للربا والغرر (الجهالة في التعامل)، والاحتكار والاكتناز، والإسراف والتقتير، والتطفيف والبخس، والغش والتدليس، والرشوة والمحسوبية، إلى آخر كل صور أكل أموال الناس بالباطل، أي كل صور الممارسات الخاطئة في النشاط الاقتصادي إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا.
الربا والفائدة المصرفية
"
فالربا يمثل ظلم الإنسان لنفسه في صورة عدم اشتراكه في نشاط اقتصادي منتج ومفيد له ولمجتمعه، ويعد استغلالا لأخيه الإنسان في صورة أخذ مال من غير مقابل، ومن ثم يصطدم مع المبدأ الإسلامي القائل "لا ضرر ولا ضرار"
"ولعل أبشع وأشنع صور أكل أموال الناس بالباطل هي "الفائدة" أي الربا. وهي أساس التمويل المعاصر. والربا لغة هو الزيادة، واصطلاحا هو الزيادة، بغير عوض، أي: مقابل في عقود المعاوضات، أي: المبادلات فهو "الزيادة" في المال، نقودا كانت أو منتجات اقتصادية (طيبات) مثلية، نتيجة دين أو تبادل في المثليات. ويعرف ربا الدين –اتفاقا- بأنه الزيادة في أصل الدين مقابل الأجل، سواء كانت مشروطة ابتداء أو محددة عند الاستحقاق للتأجيل في السداد. والربا بصفة عامة محرم تحريما باتا قاطعا في كافة الأديان السماوية. وجاءت كتابات كثير من المصلحين الاجتماعيين والاقتصاديين في هذا الخصوص متفقة تماما مع هذا التحريم.
فالربا يمثل ظلم الإنسان لنفسه في صورة عدم اشتراكه في نشاط اقتصادي منتج ومفيد له ولمجتمعه، ويعد استغلالا لأخيه الإنسان في صورة أخذ مال من غير مقابل، ومن ثم يصطدم مع المبدأ الإسلامي القائل "لا ضرر ولا ضرار". والربا كسب خبيث تولد عن النقود نفسها، وبالتالي أخرجها عما وجدت لأجله، أي كوسيط للتبادل ومقياس للقيم. فالنقود بالقطع ليست "سلعة" يتاجر فيها. ولا ينبغي لها أن تلد بذاتها نقودا، كما لا يمكنها بذاتها أن تنتج شيئا من الطيبات، ومن ثم، كان الكسب الربوي كسبا بدون أي مقابل اقتصادي، ومن غير تعرض للخسارة. وعليه يشكل عبئا لا مبرر له على دافعيه، مستهلكين ومنتجين، ومن ثم يضر ضررا مباشرا بالاقتصاد والمجتمع. فهو بحق "إيدز" المعاملات الاقتصادية المعاصرة، حيث يفقد الحياة الاقتصادية مناعتها الاقتصادية، ويسلبها قدرتها على محاربة الأمراض الاقتصادية.
والربا هو أساس عمل البنوك التقليدية التي تتعامل بالفائدة أخذا وعطاء، أي التي تسير وفقا لنظام المداينة بفائدة. فتتكيف العلاقة بين البنك والمتعاملين معه يحكمها "عقد القرض" بفائدة. فالمودعون مقرضون، والبنك مقترض نظير فائدة يدفعها، باستثناء الودائع الجارية التي لا يدفع لأصحابها فائدة عادة. ويد البنك على كل الودائع "يد ضمان"، أي يضمن أصل الوديعة والفائدة على الودائع غير الجارية. ثم يقوم البنك بإقراض الأموال التي تجمعت لديه للتجار والمنتجين والمستثمرين وأيضا المستهلكين. والبنك هنا مقرض ومستخدمو الأموال مقترضون. ومن ثم، فيدهم هي "يد ضمان" أي يضمنون أصل ديونهم والفوائد عليها. والفرق بين مجموع الفوائد التي يحصل عليها البنك من مستخدمي موارده المالية ومجموع الفوائد التي يدفعها للمودعين يمثل العائد الصافي للبنك. وهذا النظام هو عين الربا. إذ أن عائد استخدام الدين إذا تحقق يحل للمدين لأنه "ضامن"، ولا يحل للدائن على أساس المبدأ الإسلامي الذي ينص على أن "الخراج بالضمان"، أي العائد لا يحل إلا نتيجة تحمل المخاطر. والمقرض عكس المشارك، لا يتحمل مخاطرة. فهو غانم دائما لا يغرم أبدا، سواء كسب المقترض أم خسر. وهذا يصطدم مع المبدأ الإسلامي القائل بأن "الغنم بالغرم". الذي يحكم حركة المال، أي أن المال لا يكون غانما، أي كاسبا أو رابحا، إلا إذا كان هناك احتمال الغرم أو الخسارة. ولا يعرف الإسلام تأكيدا لتكافل اجتماعي حقيقي سوى "القرض الحسن"، أي القرض بلا عائد، تأسيسا على المبدأ الإسلامي القائل "أي قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا". وإذا كان على رب المال مسؤولية تنمية ماله وتثميره، فعليه أن يقوم بهذه التبعة من خلال الاستثمار الإسلامي الحقيقي المخاطر، بالاشتراك بماله فعلا في النشاط الاقتصادي العيني، وتحمل نتيجة هذا الاشتراك ربحا أو خسارة.