لم يعد الكلام عن الأنفاق في غزة يأخذ الطابع السري كما كان في السابق بل أصبح بشكل شبه علني، خاصة بعد أن اعترف الإسرائيليون بعجزهم عن السيطرة عليها فشكلت بالنسبة لهم كابوساً يصعب الخلاص منه، كيف لا وهي كما يقول أحد المراقبين بمثابة معبر يتحكم به الفلسطينيون فقط، وبوجودها سيكون من الصعب إجبارهم على الرضوخ لأوامر المحتل، فكان أن تدخل العرب للمساعدة في الحد من هذه الظاهرة ببناء جدار فولاذي يصل إلى عمق 30 متر تحت الأرض.
إلا أن هذا لا يعني أن الأنفاق حديثة العهد أو أن فكرتها اكتشفت مؤخراً. فقد استخدمت المقاومة الفلسطينية أسلوب حفر الأنفاق لتنفيذ عمليات فدائية ضد الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي أكسب الأنفاق الشرعية والتأييد في المجتمع الفلسطيني، فقد كان أول استخدام للأنفاق في عمليات فدائية خلال انتفاضة الأقصى في 26 أيلول / سبتمبر 2001 حينما فجرت المقاومة الفلسطينية عبوة كبيرة أسفل موقع " ترميد" العسكري الصهيوني قرب بوابة صلاح الدين في رفح على الحدود المصرية الفلسطينية، تلاها عملية في 13 كانون أول / ديسمبر 2003 أسفل موقع "حردون" العسكري في حي يبنا برفح، والذي يقع كذلك على الحدود المصرية الفلسطينية.
ومع خروج الإسرائيليين من قطاع غزة في أيلول / سبتمبر من العام 2005، تزايدت الاغلاقات للمعابر وفُرض الحصار على قطاع غزة ومن ثم اشتداد الحصار الإسرائيلي بما في ذلك منع تجار القطاع من استيراد آلاف السلع والبضائع والمواد الخام وحصر الاستيراد فقط ضمن قائمة لا تتجاوز 20 سلعة من المواد الغذائية والأدوية.
وبسبب هذا الحصار والإجراءات المرتبطة به تحول قطاع غزة إلى سجن كبير لسكانه رافقه انهيار اقتصادي شمل كافة القطاعات (قطاعات الصناعة والخدمات والإنشاءات والزراعة•)، مع تزايد اتساع مظاهر الفقر والبطالة والمعاناة والحرمان فيه بكل أشكالها بعدما أصاب الشلل كافة القطاعات الاقتصادية علاوة على تَأزُّم أوضاع المستشفيات وحرمان مئات المرضى من العلاج ؛ لذلك لم يكن مستغربا في شيء، بل كان – وما زال- أمراً طبيعيا أن تتجدد وتتسع عملية حفر الأنفاق التي كان يتوجب على كافة فصائل المقاومة والقوى الوطنية أن تبادر إلى الإشراف عليها وتنظيمها كشكل من أشكال التحدي للحصار وتعزيز صمود المواطنين ، لكن سرعان ما تحولت الأنفاق إلى تجارة مزدهرة استخدمت مئات العاطلين عن العمل، المستعدين للمخاطرة بحياتهم مقابل المال.
فرصة عمل :
وحسب أقوال مالكي أحد الأنفاق في مدينة رفح جنوب قطاع غزة- رفض الكشف عن اسمه- فإن تجارة الأنفاق تشغل أكثر من 4000 فلسطيني بشكلٍ مباشر، مشيرا إلى أن بناء نفق واحد يستغرق (خمسة أشهر)، ويشترك في حفره عشرات الأفراد من فئة الشباب تتراوح أعمارهم بين 17 - 35 سنة، يتقاضون أجرة عمل تبلغ (100 دولار) على حفر وتجهيز المتر الواحد ، ويتراوح عمق النفق مابين (12 متر - 15 متر ).
وتعتمد تكلفة النفق الإجمالية تعتمد على المسافة ودرجة البعد بين الحدود المصرية ونقطة البدء في النفق، حيث تبلغ تكلفة النفق القريب من منطقة الحدود حوالي (15.000 $ دولار أميركي) بينما المناطق البعيدة عن الحدود ما يقارب (40.000 $ دولار) عادة. لذلك فإن تهريب البضائع وغيرها عبر الأنفاق، هي عملية تختلط الدوافع والأسباب لدى العاملين فيها بصورة مملوءة بالتناقض والمفارقات، بدءاً من أسباب الفقر والحاجة بالمعنى الإنساني
الأنفاق..شريان حياة
تقول الأمم المتحدة إن بناء الأنفاق واستخدامها في التهريب بين مصر وقطاع غزة أصبح بمثابة صناعة. وبحسب المنظمة الدولية فإن الأنفاق أصبحت شريان حياة بالنسبة لقطاع غزة بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل، وأنها تعد مصدر عمل للآلاف في القطاع.
وكما أفادنا بعض مالكي الأنفاق العاملين فيها فان نسبة الأرباح تقدر بحوالي 200- 300 مليون دولار سنويا. وبما أن هذه الأنفاق لا توجد إلا في رفح وهي المدينة الحدودية الملاصقة لمصر من الجهة الجنوبية من قطاع غزه فقد شهدت هذه المدينة ازدهارا اقتصاديا كبيرا ميزها عن باقي مدن غزه المحاصرة حيث باتت المدينة مقصداً للتجار والمواطنين من كل أنحاء محافظات القطاع لعقد الصفقات أو شراء السلع والبضائع أو البحث عن فرصة عمل
وقد أدى هذا الأمر إلى تنشيط حركة السوق في رفح ليس على مستوى المحلات التجارية وتجار الأنفاق فحسب بل أيضا دب النشاط في حركة النقل والمواصلات والمطاعم والخدمات، من جهة أخرى يقدر البعض بأن الاستيراد الشهري عبر الأنفاق يتراوح ما بين 35 ـ 40 مليون دولار، مع العلم بأنه لا يتم تصدير أي سلعة أو مادة عبر النفق لخارج قطاع غزة ، الأمر الذي حول قطاع غزة إلى سوق استهلاكي فقط، علماً بأن قطاع غزه يشتهر بتصدير عدداً من المواد عبر إسرائيل مثل الزهور والتوت التي تشتهر غزه بزراعته، فاستخدام هذه الأنفاق للاستيراد فقط دون التصدير ينذر بأزمة نقود بقطاع غزة كونها (النقود) تذهب إلى خارج قطاع غزة وعملت على إضعاف الاقتصاد الوطني وخاصة قطاع الصناعة بالرغم من محدوديتها ،ومن جانبه اعتبر الخبير الاقتصادي عمر شعبان "إن تجارة الأنفاق غير شرعية ومضرة بالاقتصاد الفلسطيني، "لأنها عملت على تقوية "السوق السوداء" غير الخاضعة لأية قوانين تجارية"، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن عملية تهريب البضائع موجودة في جميع دول العالم، ولكن الذي يقلق هو حجمها الكبير، حيث أصبح اعتماد الاقتصاد الغزاوي عليها بنسبةٍ قد تصل إلى الربع، خاصةً إذا ما علمنا أن حجم المستلزمات الخارجية التي يجب أن تدخل إلى القطاع تقدر بنحو "مليار" دولار سنويًا، وأن حجم التجارة والتبادل التجاري الذي تدره الأنفاق يقدر بنحو من 200 إلى 300 مليون دولار".
ايجابيات وسلبيات الأنفاق..تعتبر الأنفاق مصدر لمد المقاومة الفلسطينية بالسلاح،و تطوير نوعيتة وكميته، وتساهم إلى حد ما في التخفيف من حدة الحصار، كما عملت على توفير المحروقات بسعر أقل من النصف مما يصل من إسرائيل، وتوفير السلع والمواد والتي لم تكن متوفرة في قطاع غزه حتى قبل الحصار، وأصبحت الأنفاق تشكل مصدر دخل للعاملين بها حيث يعمل بها بين عامل وتاجر وصاحب نفق أكثر من 15 ألف شخص.
إلا أن البعض يرى بان الأنفاق تعد نقمة كبرى على القطاع حيث حولته إلى سوق استهلاكي فقط حيث لا يتم تصدير أي مادة أو سلعة عبر الأنفاق كما عملت على إضعاف الاقتصاد الوطني وخاصة قطاع الصناعة،
وتسبب وجود الأنفاق بتخفيف الضغط الدولي على إسرائيل فلم تعد مجبرة على رفع الحصار وفتح المعابر
ويمكن القول يقينا أن الأنفاق لم تقدم إلا حلاً جزئياً في توفير السلع الضرورية، إذ لم تسهم في تخفيف الأعباء عن المواطنين الفقراء بسبب جشع التجار وارتفاع الأسعار إلى عدة أضعاف، بحيث أصبحت الأنفاق أداة رئيسية للاستغلال و الاحتكار والثروات السوداء المتراكمة لدى الشرائح المستفيدة منها (أصحاب الأنفاق والمهربين والتجار عموماً وتجار النفط خصوصاً ) الأمر الذي سيؤدي إلى تزايد تفسخ النسيج الاجتماعي بعد أن تفسخ النسيج الوطني و السياسي و غاب تأثير الأهداف أو الأفكار الوطنية الكبرى بسبب استمرار الانقسام السياسي و الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الفلسطيني.
ويرى خبراء أن الأنفاق حالياً ليست خياراً فلسطينياً، وإنما هي حل للأمر الواقع الذي يجب أن ينتهي بأقصى سرعة، ويجب ألا يدوم طويلا.