ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي
فضيلة الشيخ / عبد الكريم الحمدان
بداية الأمر: لم يكن الاحتفال بالمولد في مصر خبر ولا أثر حتى أحدثه المعز العبيدي، وأحدث معه خمسة أخر لعلي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- ومولدًا لمن يحكم من العبيديين.
كيف؟ لا أدري. لماذا؟ ربما إنني يوما عرفـت السَبَبَا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهل !! وليوثُ الحربِ ترجو الأرْنَبَا!!
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محير في خاتمته!! والإجابة عنه تختلف باختلاف ما يدور السؤال حوله من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدة عن دينه وهديه؟
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يتناسى ويهجر ذكره سائر العام؟!
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مثل هذه المواقف، والمسلمون في كل أرض يتخطفون؟!
أسئلة تطرح نفسها مع كل موسم يتنادى فيه القوم لاحتفال من احتفالاتهم، والتي من أشهرها: الاحتفال بمولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي أجروه مجرى الواجبات، حتى أصبح من «الشعائر» التي يعز عليهم إغفالها أو ترك القيام بها، مع تفريطهم في كثير من فروض الأعيان والكفيايات، فضلًا عن السنن والمستحبات.
بداية الأمر: لم يكن الاحتفال بالمولد في مصر خبر ولا أثر حتى أحدثه المعز العبيدي، وأحدث معه خمسة أخر لعلي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- ومولدًا لمن يحكم من العبيديين.
إلى جانب هذا أحدث العبيديون «الفاطميون» اثنين وعشرين موسمًا، كعيد الخليج وعيد النوروز وأمثالها، وكلها أيام لهو ولعب.. ثم توسعوا أكثر بإقامة لكل من زعموا لهم الولاية، والله أعلم بما كانوا يعملون.
وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبك الأساطير حولها، ثمَّ إشاعتها بين العوام وأشباههم ليتلهوا بها.. من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق، فما إن يتفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحقوا بغيرها، وهكذا دواليك.
وإذا نظرنا في الدوافع إلى ذلك وجدنا فيها ما لا يمت إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته بصلة، فلا الدوافع في ذ لك محمودة، ولا الذرائع من ورائها مشروعة، وهذا ما نلسمه إلى يومنا هذا.
أسباب النشأة وتفاعلاتها الاجتماعية:
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد في مصر واستقراء ما يجري فيه من وقائع.. يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب، وهي:
1- نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم، وهذا ما صنعه العبيديون من قبل، ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد.
2- نيل الشهرة والصيت، وهذا يختص بفئة تنفق على هذه الموالد وترعاها من الأغنياء والموسرين.
3- كسب الولاء الديني، وهو الدافع الذي يدفع «مشايخ الطرق» للتسابق في إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4- الارتزاق، وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تجار الحلوى وبائعي «أمور أخرى» ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايخ الطرق المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والقصاصين والمنشدين والمغنين والراقصات! وأمثالهم.
5- إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام، فإذا ما سمعوا بمولد قالوا: هلموا إلى بغيتكم، حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
6- التعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الحق، وقد تطور هذا في العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتتح في الموالد بعض المشاريع الكبرى وتقام «المهرجانات الدينية»! من أجل الاحتفال بسيد المرسلين!، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودينه من هؤلاء، ويقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية! شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الستار حتى إشعار آخر.
وأوضح أنموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره[1]، ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلًا: «فنابليون قد استعمل «سياسة الحفلات» ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين»([2]) .
مشاهد من الاحتفال:
تختلف صورة الاحتفال تبعًا للفئة المحتفلة وأفكارها وأهدافها، ويمكننا في هذا المقام التفريق بين أربع فئات درجت على الاحتفال بالمولد في العقود الأخيرة:
أولها: الجهات الحكومية، وهي التي كانت تمثل رسميًا في هذه الاحتفالات، حيث كانت وزارة الأوقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء
وفي وقتنا الحاضر تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى شهر كامل هو ربيع الأول، ومع أن كثيرًا من البرامج لا غبار عليها إلا أن ارتباطها بموسم لم يقره الشرع يبقى نقطة مؤاخذة، إضافة إلى بعض البرامج والفقرات التي لا تخلو من غلو في شخصه -صلى الله عليه وسلم-، مثل قول المنشد:
ميلاد طه أكرم الأعياد ونذير كل الخير والإسعاد
ثانياً: الجهات شبه الرسمية، ويمثلها تقليديًا في الاحتفالات المجلس الصوفي الأعلى والطرق التابعة له ووكلاؤه في كل المدن، إذ ينص قانون تنظيم الطرق الصوفية الصادر 1976م على اختصاص هذا المجلس بإصدار تصاريح إقامة الموالد! ومجالس الذكر، وسير المواكب، والاحتفالات في المواسم والأعياد الدينية [3]، وتقيم المشيخة الصوفية هذا الاحتفال الذي تحضره مواكب الشرطة، ويحضره مندوب رسمي عن رئيس البلاد، وتعزف فيه الموسيقى، وتنطلق المسيرة تحت الرايات طريقة بعد أخرى، في موجة من الإنشاد مبتدئة من مسجد الجعفري مشيًا على الأقدام بالشوارع، لتنتهي إلى المشهد الحسيني الذي يقف الجميع أمامه في خشوع لقراءة الفاتحة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم تدبج الخطب وتلقى الأناشيد والأشعار، ويبدأ الحفل الشعبي من حيث انتهى الحفل الرسمي الذي تنقله الإذاعة والتلفزيون عادة.
ويدخل كل «شيخ طريقة» خيمته، وتعقد حلقات الذكر أو الشطح والرقص والتدخين والإنشاد والتشبيب إلى جنب المراقص وملاعب القمار وأماكن مشبوهة،وإذا ما قدر لامريء أن يرى أنواع الشر مجتمعة فما أحسب أنه سيجد مكانًا يجملها مثل هذه المواطن التي تمارس فيها المعاصي على أنها طاعة، والخرافة على أنها حقيقة، الجهل على أنه علم، ويمكنك أن تلمس هذا وأنت تسمع المنشد وهو يهذي بين أدعياء المحبة فيقول:
نور الهدى قد بدا في العرب والعجم سعد السعود علا في الحل والحرم
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
ويطلب القوم المزيد فيسمعهم حلوليات ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويستزيدونه حتى يقول:
أنا فيكمو أنا فيكمو ولكني خفي عنكمو
وهنا يتصايح الناس ويسقط بعضهم ويسكر بعضهم، ويظل يُهذرم بكلام لا يعني إلا الحلول، أو ما يسميه بعضهم بالحضرة الإلهية على اختلافٍ بينهم.
والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة، ففي ساحاتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال في المأكل والمشرب وغيرها، حيث تكثر جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة، وتختفي روح الجد، وتفيض روح الفوضى وعدم النظام، كما تختفي النظافة من المساجد، وتضطرب أوقات الصلوات والجماعات، ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة، فربما ضنَّ أحدهم على أمه بقروش يبرها بها في الوقت الذي يبسط يده بالنفقة هنا! وبعضهم يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروساً للعلم وتلاوة للقرآن وإطعامًا للفقراء والمساكين!! وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي المبتدع الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحيون ذكراه!
ولو خلت الموالد من هذه الآثام التي سقناها آنفًا، لوجب تعطيلها أيضًا، لمظاهر التدين الفاسد الذي تسودها، فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من الرقص الذي يسود له وجه أهل الدين!
أما القرآن المتلو في هذه الساحات فما ينتفع به قائل ولا سامع، إنه ضرب من غناء مملول النغم يتصنع له بعض السامعين من الإقبال ريثما يفرغ منه، وكذلك الوعظ في درس الوعظ والإرشاد التي تنظمها بعض المؤسسات الدينية لا تكاد تظفر بفائدة مما يراد نشره بين الجماهير المحتشدة في هذه الموالد.
تلك محاولات عابثة وإهدار لقيمة الذكر الحكيم والحديث الشريف.
ولو افترضنا وجود بعض الخير بين الأعمال التي تمارس في المولد فإنها لا تسوغ إقامة الموالد بعدما أضحت الشرور المتيقنة التي تكتنفها أكثر بكثير من تلك الفوائد المظنونة، وقانون الشريعة في هذا: أن درءالمفاسد مقدم على جلب المصالح [4] .
وثالث الفئات المحتفلة بالمولد هم عوام الناس الذين كانوا يمثلون زخمًا قويًا لاحتفالات الصوفية حتى وقت قريب، لكن الإقبال قلَّ كثيرًا نتيجة عدد من العوامل منها:
1- الأثر الذي أحدثته الصحوة الإسلامية المباركة، وتمثل في توعية الناس، فلا شك أن ذلك كان له أثر كبير في محاربة البدع.
2- ارتفاع نسبة التعليم والتثقيف الذي أدى إلى سقوط كثير من الأوهام والخرافات.
3- الهجوم العلماني وما يشيعه من سلوكيات مادية ، ولا يخفى أن منطق هجومه عقلاني وليس شرعيًا، فهو ينظر إلى الموالد نظرة مزدوجة، نظرة سخرية وتسخير لتشويه الإسلام، ونظرة تقديم لهذا النموذج على أنه هو الإسلام الحقيقي فيقدمه في أعمال الفنية على أنه نوع من الفلكلور