الشيخ طنطاوى والبابا شنودة
رغم محاولة ذوي النفوس الضعيفة استغلال حادث نجح حمادي لإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر ، إلا أن محافظة الدقهلية كان لها رأي آخر وأجهضت تلك المخططات مبكرا عبر تقديم نماذج مشرفة لتضحيات متبادلة تؤكد أن حضارة وإنسانية وأخلاق المصريين أسمى وأكبر من أن تفرق بين شخص وآخر على أساس اللون أو الدين.
ففي 20 يناير / كانون الثاني ، كشف مصدر أمني بمحافظة الدقهلية أن 4 مسيحيين لقوا مصرعهم خلال محاولتهم إنقاذ أحد العمال المسلمين بالصرف الصحي كان سقط داخل بالوعة للمجاري ، ونقل التليفزيون المصري عن هذا المصدر القول إن 4 مسيحيين وهم عيد فرج معوض "33 عاما - سائق" وديفيد مجدي معوض "24 عاما - عامل وروماني" ومراد رزق "32 عاما " ونادر كمال فرج "26 عاما - عاطل" في كفر ابراهيم يوسف بميت الفرماوي بمدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية شاهدوا سيد حامد مصطفى "30 عاما " وهو عامل بالصرف الصحي يسقط داخل بالوعة للمجاري وحاولوا إنقاذه فغرقوا واختنقوا الواحد تلو الآخر، وتم نقل سيد حامد في حالة حرجة إلى مستشفى بالدقهلية.
وتتواصل مشاهد البطولة ، حيث شيعت مدينة بلقاس بمحافظة الدقهلية أيضا في 18 يناير جنازة المسلم محمد عاطف عبد الفتاح " 24 عاما " الذي لقي مصرعه بعد إنقاذه أسرة مسيحية من حريق حاصرها في منزلها.
والقصة بدأت عندما توجه عاطف إلي منزل خاله في 9 يناير لسداد دين عليه وفوجئ بعد وصوله إلي مسكن خاله بأصوات صراخ واستغاثة واندفع صوب شقة المحامي ماركو عادل عبد المسيح التي تنطلق منها أصوات الاستغاثة والتي نشب فيها حريق وأسرع بكسر الباب وإنقاذهم بينما أصيب جسده بحروق بالغة نقل على إثرها إلى المستشفى في حالة حرجة.
وقبل ساعات من وفاته ، أجرت صحيفة "الوفد" مقابلة مع البطل محمد عاطف عبد الفتاح في مستشفي السلام الدولي بالمنصورة شرح خلالها تفاصيل ما جرى ، حيث أشار إلى أنه سمع أصوات الاستغاثة واندفع بقوة إلى الشقة وكسر الباب وهبت النيران في وجهه بقوة ووجد نفسه محاصرا بين النيران التي التهمت الشقة وأصر على الدخول خوفا من وجود أطفال محاصرين لإنقاذهم وحينها شعر باختناق وفقد وعيه بالداخل وعرف بعد وصوله المستشفى أن رجال الإطفاء سارعوا بإخراجه بعد إطفاء النيران التي تمكنت من وجهه وجسده .
وعلق الأب عاطف عبد الفتاح علي بدوي على تصرف ابنه قائلا إنه قام بتربية أبنائه " 3 أولاد وبنتان " علي حب الغير ومساعدة الآخرين دون تفرقة بين مسلم ومسيحي كما أنه يستأجر أرضه أحيانا من ملاك مسيحيين ولديه أصدقاء مسيحيون في قرية جميانة بمركز بلقاس وتحمل القرية اسم قديسة مسيحية ويعيش أهلها في انسجام دون تفرقة بين مسلمين ومسيحيين .
وفي السياق ذاته ، قالت أمل حسن أبو السعد والدة البطل محمد إنها لم تكن تعلم بما حدث لابنها إلا بعد نقله للمستشفي وإنها فخورة به لأنه حاول إنقاذ أرواح إخوة لهم وأشارت إلى أنه احتفل بخطبته قبل أيام قليلة من الحادث وعزاءها الوحيد أنه مات شهيداً وبطلا.
دعاية مسمومة
المتهمون في حادث نجع حمادي
المواقف البطولية السابقة وإن كانت أمرا غير مستغرب على شهامة المصريين إلا أن توقيتها يحمل دلالات غاية في الأهمية بعد استغلال "أقباط المهجر" حادث نجع حمادي للترويج للدعاية المسمومة حول ما أسموه "استمرار عقود اضطهاد الأقباط فى مصر".
الدعاية الرخيصة السابقة تتجاهل عدة أمور من أبرزها أن الدين لم يكن أبدا سببا فى التفرقة بين المصريين ويشير المؤرخون في هذا الصدد إلى تحالف المصريين المسيحيين مع عمرو بن العاص والفاتحين المسلمين الذين أنقذوا الكنيسة القبطية من الروم المحتلين الذين كانوا يضطهدون المسيحيين في ذلك الوقت بالإضافة إلى دماء المسلمين والمسيحيين التي امتزجت ببعضها البعض في مواجهة الاستعمار والاحتلال .
هذا بجانب حقيقة يتجاهلها المتربصون بأمن مصر القومي وهي أن أعمال العنف المحدودة التي وقعت في السابق بين مسلمين ومسيحيين كانت دائماً مرتبطة بالأزمات الاقتصادية والسياسية والعادات والتقاليد ولم تكن ترتبط بالدين من قريب أو بعيد إلا أن ذوي النفوس الضعيفة يدخلون على الخط على وجه السرعة ويظهرون الأمر على أنه عنف طائفي ، ولعل التقارير والتصريحات حول خلفيات حادث نجع حمادي ترجح صحة الأمر السابق .
ففي أول تعليق له على الحادث ، قال الأنبا كيرلس أسقف كنيسة نجع حمادي إن المهاجم فتح نيران بندقية آلية على الحشود فقتل واصاب مجموعة من الأقباط ، إضافة إلى مجند مسلم كان يقوم بحراسة الكنيسة ، مرجحا أن يكون الحادث انتقاما لتشهير شاب قبطي بفتاة مسلمة وقيل إنه اعتدى عليها في مدينة فرشوط بمحافظة قنا وهو الأمر الذي أثار صدامات بين المسلمين والأقباط قبل عدة أسابيع من حادث نجع حمادي .
حادثة فرشوط
وكانت أحداث عنف طائفي تفجرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في مدينة فرشوط رداً على قيام شاب قبطي (20 عاماً) باغتصاب طفلة مسلمة (12 عاماً) ، وجاء في تفاصيل الحادث أن الشاب أبو حمام سمير جرجس كان ترصد الطفلة مستغلاً خلو شوارع المدينة قبيل بث مباراة الإعادة بين مصر والجزائر في أم درمان بالسودان واقتادها عنوة إلى منطقة عشبية مجاورة ، حيث قام باغتصابها.
وأفادت مصادر أمنية أن عدة آلاف من عائلة وقبيلة الفتاة حاولوا خطف الشاب المحتجز داخل مركز أمني في المدينة للثأر منه ، غير أنهم لم ينجحوا في ذلك ، ولذا فإنه يرجح أن حادث نجع حمادي جاء في إطار الانتقام لجريمة الاغتصاب بل وكشفت تقارير صحفية في هذا الصدد أيضا أن المتهم الأول في حادث نجع حمادي "حمام الكمونى" الذي يتمتع بشهرة فائقة في عالم الجريمة كانت زوجته دخلت مستشفى نجع حمادى العام قبل الحادث بـ 10 أيام لتضع مولودها وأشرف على عملية الولادة أطباء أقباط ونظرا لبعض المشاكل الصحية المسبقة التى تعرض لها الجنين قبل عملية الوضع فقد توفى وهو ما أثار حفيظة "الكمونى" الذي سعى للانتقام وقام بالاتصال بأهالى الطفلة المغتصبة بقرية الشقيفى بمركز أبو تشت على يد شاب قبطى من قرية الكوم الأحمر بفرشوط وهى المدينة التى تبعد عن نجع حمادى بحوالى 6 كيلو متر واتفقوا على تنفيذ الجريمة.
ما سبق يرجح أن حادث نجع حمادي قد يكون مرتبطا بالانتقام لحادث مدينة فرشوط وهذا من الأمور الشائعة في صعيد مصر سواء فيما يتعلق بالمسلمين أوالمسيحيين فهي ترجع إلى الانتقام للشرف والأخذ بالثأر أكثر مما هي حوادث عنف طائفي .
وتبقى الحقيقة الهامة وهي أن مثل هذه الحوادث الفردية لن تؤثر على الوحدة الوطنية للمصريين ، مسلمين ومسيحيين ، والتى ستظل باقية مدى الدهر ، فالبابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية كان أقام في 6 يناير قداسا لعيد الميلاد في كاتدرائية العباسية في وسط القاهرة ، وشارك في حضور القداس مجموعة من الوزراء والمسئولين من أبرزهم جمال مبارك نجل الرئيس المصري ، وكان اللافت في القداس هو تأكيد البابا شنودة أن أية أحداث فردية لن تؤثر في العلاقات التى تربط بين أبناء الوطن الواحد.
وفي 16 يناير ، قام الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر بزيارة محافظة قنا لتقديم التعازى للأنبا كيرلس أسقف نجع حمادى وأكد خلال اللقاء أن المتهمين في حادث نجع حمادى لا ينتمون لأى دين والإسلام منهم بريء ، وشدد شيخ الأزهر على عمق العلاقات بين المسلمين والمسيحيين فى مصر ، قائلا : " إننا يجمعنا وطن واحد، وتربطنا روابط المحبة ، ونحرص على الاحتفال معا في الأعياد المسيحية والإسلامية".
وأضاف " الشريعة الإسلامية بريئة من الذين يعتدون على الآمنين دون وجه حق، لأن نفس المسيحى وعرضه وماله مصونة مثل المسلم تماماً" ، واستطرد طنطاوى قائلا :" إن الاختلاف فى العقائد والشرائع لا يمنع التعاون بين أصحابها لأن الجميع خلق من أب واحد وأم واحدة " ، واستشهد في هذا الصدد بدفع المسلمين والمسيحيين للضرائب والتحاقهم بالجيش ومحاربتهم عدواً لا يفرق بينهم .
والخلاصة أن حادث نجع حمادي الذي وقع في 6 يناير وراح ضحيته 6 مسيحيين وجندي شرطة مسلم لن يؤثر بأي حال من الأحوال على نسيج الوحدة الوطنية بين مسلمي ومسيحيي مصر .