هيئته تستدعي للذاكرة صورة المرشدين التاريخيين للجماعة.. لحية خفيفة ووجه نحيف ونظارة وقبعة ماليزية.. قالوا عنه إنه ورع تقي صفي نقي صابر محتسب.. ذو صوت عذب يرتل آيات الله ليلاً ونهارا.. ويشدو صادحاً بأناشيد الجهاد والدعوة في محيط إخوانه لا يستحي من ذلك ولا يستكبر.. تواضعه جم.. صاحب فقه ودين.. لا يأتي عليه سحر إلا وهو يتهجد ولا فجر إلا وهو يقرأ الأذكار ولا مساء إلا وهو يتلو ورد الرابطة.. كل هذا ويزيد عناصر صورة ترسم قسماتها شهادات وقناعات القطاع العريض داخل الجسد الإخواني.هذه بعض من خصال محمد بديع المرشح بقوة لمنصب المرشد الثامن للجماعة، وقد لد محمد بديع عبد المجيد سامي ونشأ في المحلة الكبرى عام 1943 لأب متدين رباه على حب العلم فالتحق بكلية الطب البيطري بالقاهرة سنة 1960 ثم تخرج ليعمل معيداً بكلية الطب البيطري جامعة أسيوط عام 1965، لكن هذه الأعوام شهدت تحولاً في حياة ومصير ومسار "بديع".
في عام 1959 تعرف بديع على أحد أعضاء الإخوان المسلمين السوريين الحمويين، وهو الدكتور محمد سليمان النجار الذي دعاه إلى الانضمام إلى جماعة الإخوان، فاقتنع الشاب الصغير وتحمس للفكرة برغم أجواء الخوف التي كانت تثار عند ذكر كلمة الإخوان وقتئذ، وترك النجار أثره على بديع في إخلاصه لدعوته وبذله الجهد والوقت من أجلها، وقد قال بديع عنه إنه هو الذي تابعه بالتربية والتنشئة وعلاج الثغرات وسد النقائص.
وفي نفس العام بدأ الشاب الصغير في حفظ الجزء الأخير من القرآن وبعد إتمامه رتبت له تصاريف القدر موعداً مع سيد قطب، حيث أهداه داعيته سليمان النجار الجزء الأخير من "في ظلال القرآن" فشعر بديع -كما يقول- أن جسده قد دبت فيه الروح وأنه لم يذُقْ حلاوة القرآن قبل ذلك.
لكن اللقاء الأهم والأخطر في حياة بديع كان مع عبد الفتاح إسماعيل تاجر الغلال الدمياطي الذي كان يطوف الجمهورية بحكم عمله، وتعرّف على الطالب الطيب المتدين الذي تأثر بدعوة الإخوان والذي كان يوشك على التخرج ثم ضمه إسماعيل إلى التنظيم الذي أسسه وعرف بعد ذلك بتنظيم (65).
سرعان ما استجاب بديع لدعوة عبد الفتاح إسماعيل ومحمود عبد الفتاح الشريف فقد كان عاشقاً مغرماً بكتابات قطب التي انهالت عليه كفتوحات ربانية عبر "حميدة قطب" ثم "زينب الغزالي" وباقي مجموعته ليشعر أثناء وبعد قراءتها ببركان الحماسة للإسلام ينفجر داخله، معلناً بجسارة استعداده بأن يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، كما يروي.
سرعان ما انكشف أمر التنظيم وقبض على بديع وألقي في السجن ليرى بنفسه ما كان يسمعه من إخوانه عن جحيم سجون عبد الناصر، وليحاول أن يثبت في مواجهة الفتنة، ولا يكن من الذين فتنوا وارتدوا على أعقابهم خاسرين، واجتر من وعيه ووجدانه المخزون والمتراكم من الصبر والتضحية والفداء..
لم ينس بديع مرارة التعذيب وسياط الجلاد فيقول: لا يمكن للإنسان أن ينسى كل ما مرَّ به من اختبارات وابتلاءات، خاصةً ونحن في السجن الحربي.. كانوا يؤذوننا بطوابير التعذيب في السجن.. وأخ لنا يصدح ويجلجل في زنزانته بقول الله تعالى: ?إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ?، كان يجلجل بصوته وتتردد أصداء هذا الصوت في الزنزانة ثم في السجن الحربي وفي فضاء العباسية كلها: ?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?.
لقد فهم بديع معنى مقولة قطب "هذا القرآن نزل في جو ساخن، ولا يُفهم إلا في الجو الساخن الذي نزل فيه".
جعل السجن من بديع شخصًا روحانيًّا مع أن السجن يخلق للأفكار أنيابا حادة، ويشحن الوجدان كراهية لمن وضعه خلف القضبان، لكن بديع انقطع إلى الله وزادت صلته به وعاش مع عالم من الملائكة كما يصف خلوة السجن.
قضى بديع 9 سنوات خلف قضبان السجون وخرج في عام 1974 وسرعان ما اندمج في حياته العلمية حتى حصل على ماجستير الطب البيطري جامعة الزقازيق عام 77، وأصبح مدرسا مساعداً بها وتزوج من ابنة الحاج محمد الشناوي الذي سجن معه في نفس القضية وكان الشناوي الضابط الطيار عضواً في النظام الخاص القديم للإخوان ورفيقاً لمصطفى مشهور.
ولم يعرف لبديع نشاط في أواخر السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، وهي الفترة التي شهدت بناء تنظيم الإخوان في مصر، وهي أيضا الفترة التي تولى فيها المرشد الثالث عمر التلمساني الرجل الذي لم يذكره بديع يوما بكلمة واحدة، لكن البعض روى لنا أن بديع ومعظم مجموعته لم تكن ترضى عن أداء التلمساني ولا أفكاره، وقيل أيضاً إن بديع كان من المقربين إلى مشهور، وإلى الحاج الشناوي وكان يعمل ضمن دائرتهم بعيداً عن التلمساني؛ لأن التلمساني لم يكن محبوبا إلى الاثنين، فالتلمساني كان أحد أعضاء اللجنة التي حاكمت أعضاء النظام الخاص بعد مقتل الخازندار وخرجت بإدانة لمشهور ومن معه.
سافر بديع إلى اليمن أثناء فترة التلمساني 1982- 1986م مما أسهم في عدم ظهور الرجل على الساحة في هذه الفترة، ونظرا لجهوده العلمية هناك سجله اليمنيون في موسوعة عظماء العلماء العرب واعتبره الإخوان واحداً من مائة عالم عربي.
انتقل بديع من المحلة الكبرى أو بالأحرى من الزقازيق موطن عمله إلى محافظة بني سويف 1987 وعين أستاذاً للطب البيطري بجامعتها بعد أن حصل على الدكتوراه من جامعة الزقازيق عام 1977.. لكن لا أحد يعرف لماذا انتقل بديع؟
قيل إن بديع دفع إلى بني سويف من قبل مصطفى مشهور ورجالاته؛ لأن بها شخصاً كان غير خاضع لسيطرتهم وهو الحاج حسن جودة مسئول بني سويف في هذا الوقت ونقل بديع إلى هناك بدا أنه سيحقق فائدتين: وضع المكتب الإداري في بني سويف تحت أعين وسيطرة رجل يتبع مشهور والإتيان ببديع ممثلا لبني سويف في مكتب الإرشاد ليزيد من تكتل فريق مشهور ورجالاته وهو الأمر الذي لن يتمكن مشهور من تحقيقه وبديع ما زال في المحلة الكبرى، وقد كان، فقد مثل بديع في مكتب الإرشاد بناء على تمثيله الدائرة الإدارية لبني سويف ثم تولى مسئولية الصعيد كله، وهو أمر كان يخالف العرف الإخواني الذي لا يحبذ أن يهبط رجلاً بمظلة على بلد ليس من أبنائه وهو ليس خبيراً بعائلاتها وتقاليدها.
كاد بديع أن ينسى مرارة السجون بعد أن بعد عن أعين النظام أو بسبب ما شهدته العلاقة بين الإخوان والنظام من هدوء نسبي، لكن السلطات المصرية أعادت الكرة واعتقلته على ذمة ما عرف وقتها بقضية "جمعية الدعوة الإسلامية" التي أنشأها حسن جودة وتولى بديع رئاسة مجلس إدارتها وظل معتقلاً لمدة 75 يوما وهو الاعتقال الثاني لبديع منذ اعتقال 65.
لكن الاعتقال الأخطر لبديع كان على ذمة قضية عرفت بـ"النقابيين" عام 1999 والتي حكمت المحكمة العسكرية عليه فيها بالسجن لمدة 5 سنوات قضى منها ثلاث سنوات وثلاثة أرباع السنة وخرج عام 2003.
ففي 14/10/1999، في فرع نقابة المهندسين في المعادي ألقت السلطات القبض على مجموعة من النقابيين الإخوان كان رأسهم مختار نوح وخالد بدوي ومحمد بديع، ثم حاكمتهم محاكمة عسكرية، حيث كان مختار نوح قد نجح في إجبار الحكومة على إجراء انتخابات المحامين بعد رفع عدة دعاوى عليها، فجمع قسم المهن في الإخوان لكي ينقلوا عنه كيف يسلكون هذا الطريق بعد نقل الخبرة إلى النقابات الأخرى، وفي المحاكمة وجد بديع نفسه بجوار جيل لم يكن يعرفه قبل ذلك، لكنه أحبهم وأحبوه وتوطدت علاقته بهم فوصفوه بالنقاء والتقوى وأحدهم قال عنه "إنه رجل لا تقترب منه إلا ووقعت في حبه".
في رحلة البحث عن بديع سألنا أحد المسجونين من جيل الوسط فحكى أن بديع لاقى عنتاً من بعض الإخوان بسبب علاقاته الطيبة والودودة بهذا الجيل لكنه صبر كثيراً واحتسب، وشخصا مثل مختار نوح المجمد عضويته بالجماعة يصدر كتبه دائما بإهداء إلى محمد بديع ويقول "إنني أحب هذا الرجل"، وقيل أيضا إنه عند حدوث أي مشكلات في الجماعة فإن بديع يتصدر لها؛ لأنه يوصف بأنه رجل يجمع ولا يفرق.
لا يتحدث بديع إلا ويطعم كلامه بآيات القرآن والأحاديث الشريفة فعندما رصدنا الحوارات القليلة التي أجريت مع الرجل كادت أن تكون إجاباته كلها حتى عن الأسئلة السياسية أو التي تتعلق بمشكلات الجماعة آيات قرآنية وأحاديث نبوية ثم يفسرها ويسقطها على الواقع، فالرجل يرى أن كل الإجابات موجودة في القرآن والسنة، حتى في معرض إجابته عن سؤال عن أسباب الحملات الإعلامية على الجماعة استشهد الرجل بآيات قرآنية، وعندما تحدث عن الكرة تحدث عنها وفقاً للقرآن والسنة، فيقول إن الورد الرياضي أخو ورد التسبيح، أما عن النادي الرياضي الذي يشجعه فقال: ليس لدي تعصب لنادٍ من النوادي، فأنا أبحث عن أفضل نادٍ خلقًا وسلوكًا؛ لكي أحبه.. وأنا أرى أن لاعبي النادي الأهلي هم الأفضل بشكل عام، كما أشجع فريق المحلة حتى يستمر في الدوري العام، بالإضافة إلى منتخب بلادي، حينها اختتم كلامه معنا بقوله "بلدي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام".
أما مقالات بديع المعدودة فحملت معظمها عناوين تربوية وربط الأحداث والمواقف الجارية بالتربية.
على المستوى الفكري والسياسي لا يختلف بديع عن أبناء جيله كثيراً لكن البعض أكد لنا أنه أكثر هذا الجيل انفتاحاً، فهو قد بدأ في استخدام العصا السياسية حديثاً، وأنه يكره التكتلات والتربيطات وشخصيته تسمح بطرح مبادرات جديدة.
ولعل بعض مقالاته والحوارات القليلة التي أجراها معه موقع الجماعة الرسمي توضح بعضا من صفاته فهو يؤمن بدولة إسلامية وليست دينية، ويرى أن القائد يقوم بأعباء دينية بجانب قيادته مثلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل في الدولة الإسلامية الأولى، فكان قائد الدولة والمنفذ لأحكام القضاء وكان يقود الجيش.
ويتحدث عن الديمقراطية فيقول: إذا اختار الناس شيئا غير شرعي لا يصلح تنفيذه، فإذا كانت هناك مخالفة للشرع فلا يمكن إعمالها.
كما يؤكد أن الإخوان سيقبلون نتيجة الانتخابات حتى لو جاءت بجمال مبارك إذا تم الانتخاب بحرية وبنزاهة فجمال مبارك له الحق في الترشح مثله مثل غيره في انتخابات رئاسة الجمهورية، ولكن بشرط فتح الباب لجميع المصريين على قدم المساواة وفي انتخابات حرة نزيهة، لكن إذا جاء عبر انتخابات مزورة، وقصر الفرصة عليه هو فقط، فهذا ممنوع شرعا وديمقراطيا.
ويرفض بديع ترك العمل السياسي والتفرغ للدعوي؛ لأنه يرى أن هذا يتماهى مع خطة النظام لتجميد الإخوان والقضاء عليها نهائيا، كما يرى أن المرأة لا تصلح لقيادة الدولة وكذا القبطي بناء على رأي فقهي، ويرفض بديع مبدأ الصفقات مع الحكومة، لكنه لا يرفض التفاهم معها، ويؤكد أنه "لا توجد صفقات على حساب مبادئ وقيم بل أهداف كل طرف والحفاظ على البلد، فلا نهدف للحوار مع الحكومة وحدها التي تمثل حزبا واحدا، لكن نريد حوارا مع جميع القوى التي تشكل الخريطة السياسية في مصر وتحتاجها البلد".
يثبت بديع أنه أشد المخلصين للتنظيم الذي يعتبره محضنا تربويًّا للجماعة كفل لها الاستمرارية طيلة هذا الوقت، وأثبت أن خطابه العام مغرق في الدعوية فيقول: إننا نتعبَّد لله بالالتزام بالشورى، ونظُم الجماعة، والثقة في القيادة، مع النصيحة الواجبة لأئمة المسلمين وعامَّتهم؛ بشرائطها الشرعية وآدابها، وإن وحدة القلوب وصفاءها بها نُنصر ونُؤجَر بإذن الله تعالى.