كانت رياضتى المفضلة هى الهوكى التى كان كل من حولى يعتبرها رياضة عنيفة، اليوم فقط اكتشفت أن أعنف رياضة هى كرة القدم، ولكننى لم أكتشف بعد لماذا لم تنتشر لعبة الهوكى فى مصر رغم أنها كانت تلعب فى كل القرى باسم «الحكشة».
أعرف أن الرياضة الأولى فى العالم كله أصبحت كرة القدم، ربما لأنها أيضاً رياضة استثمارية تشترى فيها النوادى ويحتكر اللاعبون وتسوق الحقوق وتروج الإعلانات ويساق فيها عموم الناس وقوداً لمطحنة تدر مليارات على قلة، الناس سعداء فى كل حال بالكرة، وسعادتهم على العين والرأس،
ومع ذلك فإن السؤال لا يزال يلح علىّ: لماذا لم تأت الهوكى فى مرتبة ثالثة من اهتمام الإعلام الرياضى، خاصة وقد فازت فرقها فى مباريات دولية؟.. أقول فى مرتبة ثالثة لأنى حجزت المرتبة الثانية لرياضة فلحنا فيها هى الاسكواش، ونلنا فيها بطولات عالمية كان آخرها منذ عدة أيام ونحن فى خضم موقعة الخرطوم.
هل يستطيع الإعلام الرياضى أن يعطى مزيداً من الاهتمام لرياضات أخرى، أم أنه يلهث وراء أقدام لاعبى الكرة؟.. سؤال أعرف أنه عقيم، خاصة وقد أودى بنا الإعلام الرياضى إلى كارثة نضح عطنها فى المنافسات الأخيرة مع الجزائر، تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى دكاكين بعض البرامج الرياضية التى أصبحت كيانات شبه مستقلة داخل قنواتها، تعمل وفق أجندات خاصة لتحقيق مصالح مادية ومعنوية شخصية، وتجارى من أجل ذلك مشاعر العامة، تنفخ فيها المزيد من جرعات الإثارة والتهييج، وتستدعى الأغانى الوطنية المدفونة فى الأرشيف عمداً لتسهم فى تأجيج نيران التعصب، فى المقابل كان الإعلام الجزائرى أكثر حدة وهوساً، خاصة بنشره أكاذيب عن قتلى جزائريين فى القاهرة.
المؤسف أنه كان من السهل إخماد الفتنة فى مهدها فى كلا البلدين اللذين يحكمهما نظام شمولى يسيطر على مفاصل الإعلام جميعاً، إلا أن مصر والجزائر وغيرهما من دول العرب تفرغت لمطاردة الإعلام السياسى من خلال وثيقة مأفونة لما سمى بالتنسيق الفضائى، وفى مصر انشغل الفقى وزير الإعلام بمعارك صغيرة لاحتكار بث المباريات، وبمهرجان بزرميط للإعلام العربى، وبتعقب قناة الحياة لأنها تذيع مواد إخبارية وبإدارة يومية مباشرة لبرنامج واحد هو البيت بيتك،
وبوضع أخطر مشروع قانون لإحكام الرقابة على جميع وسائل البث بما فيها الإنترنت، فى حين كان يمكنه بإشارة من طرف الأصبع أن يوقف العبث بعلاقات عزيزة على شعبين وبمصير أمة، ولعل قرينه الجزائرى كان مشغولاً عن الأهداف الأسمى بمشاغل مشابهة ولا أحد فى مصر أو فى الجزائر اليوم يتذكر شيئاً من عبق تاريخهما الناصع، بلد المليون شهيد أصبحت بالنسبة لنا بلد المليون بلطجى وجميلة بوحريد أصبحت غانية فى سوق الدعارة، وفى الجزائر أصبح المصريون صهاينة وأعلامهم ديست بالأقدام، وسط هذا الجو الأغبر جرت موقعة الخرطوم التى ستترك فى نفوس المصريين أثراً ربما لا يمحى لسنوات عندما وجدوا أبناءهم يجرون كالفئران فى شوارع أم درمان يختبئون فى بيوت مضيفيهم السودانيين هرباً من مشجعى الجزائر الذين ظلوا يطاردونهم طوال الليل لإرهابهم بالسلاح الأبيض.
لا أفهم أنا ولا غيرى لماذا اختار اتحاد الكرة المصرى الخرطوم لهذه المباراة التى اصطلح على تسميتها بأم المباريات، ولا لماذا سكتت الحكومة على ذلك، أظن أنهم جميعاً كانوا تحت وهم أن السودانيين سيلتفون بقضهم وقضيضهم حول المنتخب المصرى، وأن الخرطوم أقرب إلى القاهرة من الجزائر وبذلك ستكون مرتعاً محتكراً للمشجعين القادمين من مصر، كان هذا هو أول خطأ فادح، صحيح أن العلاقات بين الشعبين السودانى والمصرى تاريخية كما اعتدنا القول لكنها فى التاريخ الحديث شهدت شوائب تلفت النظر، منها قيام حكم فى السودان يجافى الأسس التى يقوم عليها الحكم فى مصر،
ومنها محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى إثيوبيا التى قيل إنها بتحريض سودانى، ومنها حادثة حى المهندسين التى أطلق فيها الرصاص لإجلاء اللاجئين السودانيين، ومنها إعلان الحكومة السودانية الأخير باعتبار حلايب وشلاتين دائرة انتخابية فى انتخابات السودان القادمة، ومنها أيضاً ما لابد أن نعترف به، وهو نظرة الاستعلاء لدى بعض أهل مصر تجاه أهل السودان، لم يتفهم اتحاد الكرة هذا كله وهو يختار السودان، ولذلك أصيب بالدوار عندما استعصى على فهمه هل الجمهور السودانى معنا أم علينا، وهو بداهة كأى جمهور فيه من معنا وفيه من مع الآخرين.
على أن هذا لم يكن الخطأ الوحيد فى اختيار الخرطوم، الخطأ الآخر المعروف للجميع هو طاقة البلد وقدرته على تنظيم مباراة كهذه وتأمينها بلاعبيها ومشجعيها، وهنا فلا أحد ينتقص من الجهد الذى وفره السودان والألوف من رجال الأمن التى كرست للمهمة، ولكننا نعرف مدى إرهاق السودان فى السنوات الأخيرة بأزمة دارفور ومحاولات الانفصال فى الجنوب والقلاقل شمالاً وشرقاً، الأمر الذى لم يمكن السودان من بلوغ طموحه، المطار لا يستوعب هذه الجسور الجوية لطائرات مصر والجزائر وتنظيم الدخول إلى الملعب والخروج منه، وتأمين المشجعين قبل المباراة وبعدها، كل هذا كان على نحو بائس، ومع ذلك فإن عذر السودان متوقع ومقبول وهو أن الفاجعة كانت أبعد من كل تصور، لأنه لا أحد توقع كل هذا الحشد ولا هذا العنف من جمهور الجزائر، يلاحظ هنا أن السفير السودانى فى الجزائر أنكر العنف برمته فى حين أرضى سفير السودان فى القاهرة الجمهور المصرى بما يطرب أسماعه.
إلا أنه إن كان السودان قد فوجئ فعلاً، فما هو عذر مصر فى تقديراتها الخاطئة؟ مصر تعرف جمهور الجزائر منذ بدأ الشغب بين الجانبين قبل أكثر من 20 عاماً وتعرف أن نحو مائة مباراة محلية فى الجزائر ذاتها لأجريت دون جمهور بسبب الشغب، وكان عليها أن تتوقع أسوأ الاحتمالات حتى ولو لم تحدث، ولكنها فشلت فشلا ذريعا فى الإعداد للمباراة وفى كل ما تلا ذلك من إجراءات لأن القرار اتخذ كالعادة فى اللحظات الأخيرة،
بالرغم من أن المشجعين الجزائريين بدأ وصولهم إلى الخرطوم بعد مباراة القاهرة مباشرة إلا أن سفارتنا فى الخرطوم وعيوننا فى القاهرة، كانت فى غيبوبة، فلم ترصد نقل ألوف الجزائريين مجاناً، ولا أعدادهم ولا تنظيمهم ولا حيازتهم للسلاح الأبيض، ولا شراءه بكميات ملحوظة من أسواق الخرطوم ولا تأجيرهم لمعظم سيارات الميكروباص والنقل وقيادتها بأنفسهم، ولا حجزهم لغالبية الفنادق، ولا إغراقهم العاصمة السودانية بالأعلام واللافتات،
أما نحن فأرسلنا جسرنا الجوى فى يوم المباراة ذاته، واخترنا جمهوراً من وجهاء المشجعين يصلح للذهاب إلى كرنفال، ولم نستطع حتى تنظيم الألفى شخص الذين تباهى الحزب الوطنى بإرسالهم، وهو العاجز عن تنظيم أى مناسبة خارج قاعة المؤتمرات، ولم نستطع حماية أبنائنا بغطاء أمنى خاص فى حين يصول الأمن ويجول فى مدن مصر مزهوا بفرق الكاراتيه، ولم نستطع حتى توزيع أعلامنا فطبعت السفارة أعلاماً من ورق كأنها تجهز لعرائس مولد النبى، ولم نستطع توثيق ما جرى فى الخرطوم ببلاغات للشرطة يمكننا استخدامها كسند قانونى.
الحق أن أفضل ما فعلته مصر كان أداء منتخبها فى الملعب تحت ضغط نفسى غير مسبوق، وكذلك حضور علاء مبارك بطلته المحببة للمصريين وحضور شقيقه معه.
غير هذا فشلت مصر بامتياز فى إدارة أزمة أم المباريات، وليس من المستبعد أن تفشل فى إدارة أزمة مماثلة قد تحدث خلال هذه الأيام بسبب تجاور المخيم الجزائرى والمخيم المصرى اللذين لا يفصل بينهما سوى مائة متر فى منى وعرفات. كان سجل الحكومة فى جميع الأزمات السابقة فشلاً تلو فشل تلو فشل، هذا ما شاهدناه فى أزمة الخبز، وفى أزمة البنزين والبوتاجاز، وفى أزمة السحابة السوداء، وفى أزمة الدويقة، وفى أزمة الزبالة وفى أزمة حوادث القطارات وفى أزمة العبارة التى كانت تغرق تحت الماء فى حين كنا غارقين فى مباراة كرة.
وعندما أخذت الفلول المصرية تحتمى بقعر الأوتوبيسات، وتتخفى فى جحور الخرطوم وتعود مذعورة فى الشوارع والأزقة وتستنجد تليفوناتها المحمولة بالمسؤولين فى العاصمة أظن أنه تبين للكل أن المشكلة فى القاهرة ذاتها، القاهرة التى مرغت كرامتها فى التراب لأن مكانتها الإقليمية تردت نتيجة سياستها التابعة لأمريكا، المتخاذلة أمام إسرائيل خاصة عند عدوانها على غزة.
ربما يكون هذا هو السبب فى أن مصر وجدت نفسها وحيدة فى أزمتها الأخيرة مع الجزائر.. لا أحد من دول العرب جميعاً تدخل، حتى من تلك الدول التى سبق لمصر السعى للتوفيق بينها، الأغرب هو السكوت المطبق للجامعة العربية فى حين يتربع على قمتها أمين عام مصرى، ونائب له جزائرى.
يشيع البعض أن التدخل عسير لأن هناك جفاء بين الرئيسين المصرى والجزائرى يصعب تجاوزه خاصة بعد أن تفاقم فى الأيام الأخيرة، وبدأ فى التصاعد مع سحب السفيرين للتشاور، ولا أحد يعرف إلى ماذا سيفضى، ولو أن هناك علاقة وحيدة مهمة مطمئنة هى حرص الرئيس مبارك فى خطابه فى البرلمان يوم «السبت» الماضى على عدم الإشارة للأزمة بشكل مباشر، مما يعنى أن القاهرة غير راغبة فى التصعيد، على أن ذلك لا يكفى، إذ إننى لا أرى منفذاً للخروج من المأزق إلا بلقاء بين الرئيسين، غير ذلك من الإجراءات مهما كانت طبيعتها لن تفضى إلى شىء البتة، بل ربما تزيد الأمور تعقيداً، ولن يتم هذا اللقاء إن تم، إلا بمبادرة من طرف ثالث ربما يكون الزعيم الليبى الذى سبق له أن اصطحب معه الرئيس بوتفليقة مؤخراً إلى القاهرة لتسوية أمور عالقة بينه وبين الرئيس مبارك.
الأمر الآن أخطر، لذلك أناشد هنا معمر القذافى «ملك ملوك أفريقيا وعميد القادة العرب»، أن يفعلها مرة أخرى فى أول فرصة سانحة. ولما لم يكن لى دلال كاف عند الرئيس مبارك، فليس أمامى سوى التوجه إلى الرئيس بوتفليقة بأن يقبل أول مبادرة عربية لترتيب لقاء بينه وبين الرئيس المصرى. أعرف رئيس الجزائر منذ زمن بعيد، عندما كان مجاهداً ضد الاحتلال الفرنسى يتخذ موقعه فى بلدة وجدة المغربية على حدود بلاده.
وفى عام 1962، عندما أعلن استقلال بلاده لحقت به وهو فى الطريق من وجدة عبر وهران إلى الجزائر العاصمة، وكان آخر لقاء بينى وبينه عندما تولى رئاسة الجزائر فى عام 1990، يومها ذهبت إليه لأسجل معه حديثاً فى برنامجى «رئيس التحرير»، فى التليفزيون المصرى، كان الحديث ودوداً دافئاً توهجت فيه أفكاره ولمع ذكاؤه وتألقت لغته الفصحى على مدى ساعتين، ولما أردت بثهما فى حلقتين متتاليتين استكثر التليفزيون ذلك على رئيس الجزائر، فوقعت أزمة تسببت فى غيابى عن شاشته عدة أشهر.
إذا كانت قد تبقت فى القاهرة إذن جماعة تحفظ للجزائر قدرها ولرئيسها مكانته، فأنا واحد منها، كنا بالملايين قبل هذه الأيام السود، وقبل موقعة الخرطوم بأيام ذهب عشرات الألوف منا للاحتفاء بالشاب خالد وهو يطربنا مع محمد منير فى مدينة 6 أكتوبر، الآن أصبحنا قلة قليلة يصفها غالبية الناس هنا بالقولجية إن لم يكن بعضهم يعتبرها مجموعة عملاء وخونة لمجرد أنهم يحاولون رأب الصدع، يا سيادة الرئيس أعرف أن معظم الجزائريين يعتبرون أن مصر هى التى بدأت مناصبتهم العداء بحادث الأتوبيس الشهير المؤسف،
وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فقد انتقم له الجمهور الجزائرى شر انتقام فى القاهرة ذاتها بتحطيم المطار، عدا الانتقام الأكثر همجية فى الجزائر ذاتها بترويع المصريين المقيمين والاعتداء على مكتب مصر للطيران وإحراق مقار شركات مصرية ونهبها، ويزيد من فداحة الأمر فرض السلطات الجزائرية المفاجئ لضرائب وغرامات قدرها 600 مليون دولار على شركة «أوراسكوم»، تأباها كل أعراف التعامل الاقتصادى وقوانين حماية الاستثمار الدولية والوطنية، ويضاعف من البلوى حملة الخرطوم الممنهجة التى لم يعد لدى شك فى أن جهة ما قد دبرتها.
أنا عاتب يا سيادة الرئيس لأن محصلة الأيام الكالحة الماضية هى سجل حافل من الخسائر المادية للمصريين دون خسائر تذكر للجزائريين، دعك عن خسارة المصريين لكرامتهم فى الخرطوم، وأنت تعرف فداحة الكرامة الجريحة.
لذلك أنتظر منك يا سيادة الرئيس أن توقف مسلسل الانتقام وأن تتخذ قرار المصالحة الذى أعرف مدى صعوبته فى مواجهة جمهور غاضب، لكنك اتخذت من قبل قراراً أصعب بالمصالحة بين الجزائريين أنفسهم، أهدنى هذا القرار بدلاً من هدايا التمور التى تفضلت بها علىّ عاماً بعد آخر فى مثل هذا الوقت تماماً ونحن مقبلون على أعياد، عيدنا الكبير حقاً هو عودة القلوب إلى الصفاء، ولعله يوماً سيأتى.