مصير الفلسطينيين في فيلم " الزمن الباقي "
عرض فيلم "الزمن الباقي" : سيرة الحاضر والغائب لكاتبه ومخرجه إيليا سليمان في رام الله والناصرة، في النصف الأول من يوليو، حيث تم تصوير الفيلم إلي جانب أن الناصرة مسقط رأس "سليمان". وقد بدأ عرض الفيلم في فرنسا يوم 12 أغسطس بعد أن شارك في مهرجان "كان 62" في 22 مايو الماضي.
استقبل الفيلم بحفاوة في فرنسا حيث تعرضه 31 صالة في باريس وحدها. وعبرت عناوين مقالات نقاد السينما عما يقدمه سليمان من جديد في السينما الفلسطينية وعما يعكسه من حجم المأساة الفلسطينية وكأنه اكتشاف. فصحيفة "لو فيجارو" عنونت مقالها "الوقت الباقي : يوميات الكارثة الفلسطينية" وصحيفة "لا تريبن" : "فيلم مؤلم عن فلسطين" وصحيفة "لوموند": "الوقت الباقي : الجمع بين المضحك والظريف علي خلفية حزينة إلي ما لا نهاية".
واحتفي الكثير من نقاد السينما العرب بالفيلم وقت عرضه في "مهرجان كان للسينما" وبعدها ومن بينهم صلاح هاشم وأمير العمري اللذان رشحاه لنيل "السعفة الذهبية" وافرد "العمري" تحليلا متميزا للفيلم اظهر فيه البعد الحداثي في معالجته (ونالت مقالته جائزة القلم الذهبي لهذا العام في مهرجان وهران السينمائي).
نوع جديد
إن إيليا سليمان أبدع سينما من نوع جديد. فبعد "وقائع اختفاء" و"يد إلهية" قفز بالفن السينمائي العربي خطوة جديدة لتعكس حالة القلق الفلسطيني وليكون كل مشهد من مشاهد الفيلم فيلما بذاته. ومن هنا يصعب قص حكاية الفيلم حيث تتداخل حياة أسرة سليمان وتاريخ فلسطين منذ النكبة إلي موت جمال عبد الناصر وتفجر انتفاضة الحجارة ثم بناء حائط الفصل العنصري. فاللقطات هي لوحات بتوقف العدسة للتأمل ولتحكي حكاية بذاتها كجزء من الكل الذي بتجميعه تتجسد الدراما الفلسطينية. فالحوار في كلمات بين أفراد لا يشكل استمرارية لحكاية ولكن بيت شعر من مرثاة. والمشهد بين أشخاص لا يشكل تواصلا لمتابعة تطور درامي لقصة وإنما لاكتشاف حالة عقلية للأشخاص وللأوضاع معا. هذه اللغة السينمائية جديدة علي السينما العربية لأنها مصاحبة لوجود جسدي لسليمان كممثل والصامت والناظر لكل حدث كما لو كان هو ذاته أحد المتفرجين. وهذه الجدة لها جذورها كامتداد "لشارلي شابلن" و"جاك تاتي" و "بوستر كيتون". فهي تجمع بين الصمت والفكاهة اللاذعة السوداء. هي تفتيت للفن السينمائي في شكله الخطي المنساب التقليدي بإدخال التفكيك "للقصة- التاريخ" وتحويلها إلي لوحات يلزم البحث فيها عن التفاصيل الخفية المضمرة وحيث الصمت هو اللغة التي تفرض نفسها علي المشاهد. فالصمت بحسب "إيليا سليمان" هي لغة المقاومة الأكثر فاعلية في ظل المأساة الجارية. فمع كل لقطة أو حوار يلزم التوقف للفهم عند الدرجة المباشرة الأولي المعطاة كما هي ولكن القراءة الأكثر متعة هي في البحث عن مغزاها البعيد أي القراءة غير السطحية التي تقول الكثير عن الذات وعن الآخر أيا كان الآخر الفلسطيني أو الصهيوني. أي كيف يري الفلسطيني نفسه في قلب التاريخ في صيرورته والتحول الذي يطرأ عليه من المقاوم الذي لم يلق السلاح ولو كان حجرا أو الذي اختار الرضوخ واللامبالاة يأسا والمتهكم ممن ينتظرون في مقاعدهم بصمت معجزة لن تأتي. فالتاريخ الفعلي لما حدث وقت "النكبة" هل هو كما تم سرده بدقة؟ هل استسلمت المدن واحدة تلو الأخري أم سقطت بعد مقاومة؟ وما سبب استمرار "النكبة" إلي اليوم؟ إن استخدام الصمت كلغة سينمائية هو "انتفاضة عقلية" تفرض علي المشاهد أن يستنتج بنفسه ما لا يقله "سليمان" حين يلعب دوره في الفيلم كجزء من تاريخ أسرته وتاريخ فلسطين بعد عودته من المنفي الذي فرضته عليه إسرائيل وهجرته لأمريكا.
مغزي عميق
وللسخرية أيضا مغزاها السياسي العميق. فسليمان يعيد تكرار ذات المشهد بذات الأشخاص في أوقات مختلفة في نفس الديكور ليعمق الفكرة التي أراد إيصالها للمشاهد. إن التكرار مرة بعد الأخري في لحظات مختلفة من الفيلم هو لتجسيد التحول الحادث في الموقف السياسي والعقلي للفلسطينيين أنفسهم الذين يعاودون الظهور لكن من ناحية بثبات وصمت وانتظار لا نهائي لمن بقي من جيل النكبة وتحول لمن جاءوا بعدها ليصبح الثبات والتحول وكأنهما عملة واحدة بوجهيها.
فمشهد الشاب الذي يحي من يجلسون علي مقهي من جيل "النكبة" بأن يمد يده ثم يسحبها ويفرقع أصابعه عندما يمد الآخر يده ليست للضحك وإن أضحكتنا. ومشهد ذات الشاب يمر أمام نفس الصحبة الجالسة في نفس الأوضاع فيلقي عليهم التحية بيده وفي المرة التالية عندما يمر يلقي عليهم التحية مرة ثم يلتفت إلي الاتجاه المعاكس ليلقي التحية علي الحائط المواجه ثم عليهم ثم علي الحائط وهكذا هو تعبير دون كلمات عن الصورة الذهنية لهم في ضميره... فقراءة لهذه المشاهد تعكس الانفصال الذي بدء يمس بعض من الجيل الجديد عن القضية التاريخية بالتهكم من الجالسين من بقايا الماضي.
فكاهة ومأساة
والمشهد الأكثر دلالة والذي يجمع الفكاهة والمأساة معا هو ذاك الشاب الذي يخرج من منزله ليلقي شيئا في صندوق القمامة في مواجهة منزله وأمامه دبابة إسرائيلية تتابعه فوهتها في حركته من المنزل إلي صندوق القمامة دون أن يهتم وكأنه لا وجود لها ثم يرن هاتفه الجوال فيتحدث مع مخاطبه بالسير ذهابا وإيابا بعرض الطريق ومدفع الدبابة يتابع حركته. ويطلب من محدثه الحضور إلي للرقص في حفلة منظمة في المساء. وفي المساء يرقص الشباب علي موسيقي معاصرة صاخبة بينما في الخارج تنبه عربة جنود إسرائيلية بمكبرات الصوت مرات متتابعة حظر التجول. ولكن انشغال الشباب هو العيش مجرد العيش كأفراد في مكان ما وان كان يضيق عليهم بحائطه العازل وينغمسون في الرقص كما لو كانوا في "حلقة زار" فهم ليسو موضوعا لحظر التجول. والجنود الإسرائيليون يدركون ذلك حينما يرقصون في عربتهم علي ذات الموسيقي المنبعثة من الصالة تاركين الشباب في حالهم.
هنا تجسيد لنقيضين للتاريخ فالمقاومة في انتفاضة الحجارة أصبحت وحدها المقاومة الفعلية وتجسد النزع الأخير لوطن. والمقاومة كمخرج يمثلها في الفيلم الإيحاء بتقديم ما هو مشابه كما يجسد ذلك مشهد من فيلم "سبارتكوس" الذي يعرض في الفيلم علي فصل دراسي لأطفال فلسطينيين. ولكن لا ينسي سليمان التشديد علي ازدواجية في الثقافة العربية ذات طعم خاص ويعكسها الحاضر. فمحرر العبيد هو دعوة للثورة ولكن في لحظة تقبيل "سبارتكوس" لحبيبته تقف المدرسة لحجب المشهد عن التلاميذ بجسدها وتقول : "إنها أخته يا أولاد.. إنها أخته" ! هنا طمس حقيقة المشاعر لا يختلف عن طمس الحقيقة في ذاتها التي تعم التاريخ العربي.
ولكن المقاومة في شكلها الأسطوري هي قفزة "إيليا سليمان" من فوق "حائط الفصل" بعصا "زانة" كرياضي يقوم بالقفز العالي. وهنا معني خاص إذ يعتبر أن من بين الإسرائيليين فئة صادقة في مناصرتها للفلسطينيين لا معني لمقاطعتها والتواصل معها هو استمرار في المقاومة.
حائط الفصل
وأكثر ما يلفت الإنتباه في الفيلم كان هو صمت سليمان فظهوره كمشاهد في القسم الثاني من الفيلم يسجل بصمت ما يري ويدعو المشاهد لمشاركته الرؤية. أي وجود ينفي فكرة التمثيل كلعب لحدوته خيالية. فلا داعي للكلمات لتصف نهب قوات "الهجاناه" الصهيونية لمنازل الفلسطينيين الفارين بعد هزيمة الجيوش العربية. ولا تعليق علي تخفي هؤلاء الجنود بالكوفيات الفلسطينية لإيهام المواطنين بان العرب انتصروا في دخولهم المدن لكي يغتالوا من بقي منهم. ولا تعليق علي إطلاق احد الجنود الرصاص علي فلسطينية أطلقت "زغرودة" لتوهمها أن المقنعين الصهاينة هم المقاومة العربية. ولا تعليق علي المواجهة بين أطفال الحجارة والجيش الصهيوني. دمعات ترقرقت في عيون الأسرة الفلسطينية دون كلمة لحظات إعلان أنور السادات في التليفزيون نعي وفاة جمال عبد الناصر. المبالغة مقصودة في الظهور الصامت لمخرج الفيلم وكاتب حكاية فلسطين بدءا من مذكرات أبيه المقاوم وخطابات متبادلة بين أفراد الأسرة وسماع روايات الذين عاشوا نكبة 48 قبل مولد إيليا عام 1960 وهذا الصمت ذاته يلعبه في علاقته بالآخرين مثل التواصل مع أمه التي أسكتها المرض ولا تكاد تدرك ما حولها بإسماعها أغنية قديمة أحبتها فبدأت قدماها تعيد اللحن بدبدبة خفيفة. ويتم التواصل مرة أخري عندما يضع سليمان نظارة طبية علي انف تمثال يمثل "السيدة مريم" أم المسيح فتبتسم الأم وتتخذ قرارها الذي لا يعارضها فيه سليمان بكلمة بنزع الأجهزة الطبية في العناية المركزة. وكأن وقتها مضي والوقت الباقي هو للآخرين.