/ المدرسة الواقعية
الفيلسوف الأميركي المعروف (وليام جيمز) الذي اشتهر بتجديد المدرسة المعروفة بالواقعية (البراجماتيزم)، قال في تعريف هذه المدرسة: إنه إسم جديد لمناهج عتيقة للتفكر106.
وهو يرى أن مقياس تمييز الحق عن الباطل، هو النتائج الواقعية التي يورثها العمل. وهدف العلم هو هداية الإنسان إلى الانتفاع بالطبيعة، وتكييف البيئة مع حاجات البشر؛ فكلما نفعت حاجات الإنسان فهو حق، وكلما أضر بها فهو باطل.
وهو يرى أن الحق هو المصلحة المرتسمة في أذهاننا، والمصلحة هي الحق المتجسّد في الواقع107.
وللمدرسة الواقعية فوائد لا تنكر، منها ما يلي:
أولا: فهم المتغيرات فهماً عميقاً.
ثانياً: أخذ المصالح بنظر الإعتبار.
ثالثاً: طرح البحوث النظرية البحتة جانباً.
رابعاً: حذف الحواجز التي تفصل بين مختلف العلوم وبين القانون.
خامساً: اعطاء معيار لدراسة الأولويات في القانون.
ولكن للمدرسة النفعية نقاط ضعفها التي نلخصها فيما يلي:
إن المنطق الذرائعي الذي بشّر به (وليام جيمز)، وأكمله (جون ديوي)، يعتبر وريث المنطق الوضعي، الذي يتجاهل دور العقل والوجدان الأخلاقي والمبادئ التي لا يشك فيها أحد، وهو - إذ يركّز اهتمامه بالجوانب المتغيرة من حياة البشر - يغفل عن الثوابت التي هي الأخرى حقيقة. إنّ انكار القوانين الثابتة في الطبيعة (قانون الجاذبية مثلاً) يعتبر سفسطة وجهلاً، فكيف لا يكون كذلك إنكار وجود أنظمة اجتماعية ونفسية في حياة البشر (مثلاً حاجة البشر إلى النظام)، والمنطق الوضعي ينكر وجود ثوابت في حياة الإنسان؛ أليس هذا منطقاً غير علميّ؟
ثم إن هذه المدرسة ترى أهمية المصالح، ولكن دون أن تحدد ما هِي المعايير التي نوزن بها قيمة المصالح ونفضِّل بعضها على بعض. أضف إلى ذلك أن هذه المدرسة تجعل الأخلاق العليا غير مبررة، وبالتالي تعيد البشرية إلى الجاهلية.
5/ المدرسة الديكتاتورية
بالرغم من أن المدرسة الارادية التي جعلت القانون تابعاً لمشيئة الحكام وأهوائهم، هذه المدرسة كانت منذ القدم، إلا أن فلسفة هيجل (1770/1831) كانت أعتى سند لهذه المدرسة، وتبدأ هذه الفلسفة من التفريق بين الحرية وإتباع الأهواء الفردية. وهكذا يفسر الحرية بالنظام، لأنها لا تتحقق إلا بالدولة، ويزعم أنه لا يمكن التفريق بأية صورة، بين القانون والدولة، وبين السياسة والأخلاق، ومن هنا يمكن للحكومة أن تفدي الفرد لمصلحة المجموع108.
أما الفكرة العامة في نظرية هيجل - حسبما أرى - فهي بلورة روح الأمة، حيث يعتقد أن الحياة حركة تكاملية نحو الروّح المطلق، وأن كل أمّة تتفق حركتها مع تلك الحركة التكاملية العليا فإنها تتقدم وتتعالى على سائر الأمم، وحين تضعف حركة هذه الأمة تترك القيادة لغيرها.
والصراع القائم بين الأمم، ضرورة لتقدم تلك الروح العالمية، وانتصار أمّة على أخرى هو - في رأي هيجل - انتصار الحق على الباطل، ولأن الواقع هو الحق فإن النتيجة التي تترتّب على نظرياته هي أن القوة هي الحق.
وبما أن (هيجل) كان يرى أن الألمان هم الأمّة القريبة من الروح المطلقة، وأن الدولة فيها هي كل شيء، وأن قوّتها هي الحق، فان نظرية هيجل وجدت أوضح تطبيق لها في النازية العسكرية، وهذا يعتبر أكبر فضيحة لنظريته.
ونظرية الديكتاتورية الهيجيلية تجسدت أيضاً في سائر المذاهب الشيوعية وتطبيقاتها الفاضحة، وتبعتها الفاشية والنازية والمدرسة الخالصة التي تمجد جميعاً وحدة القانون والدولة، وهي عموماً نظرية خاطئة تماماً وللأسباب التالية:
أولاً: لأنها تجعل للدولة الحق في وضع القانون إحتياطاً. وثانياً: لا تهتم بالعوامل المؤثرة في وضع القانون. وثالثاً: تسن القانون بعيداً عن البيئة الاجتماعية ومتغيراتها. ورابعاً: تتنكر للقانون الفطري.
6/ المدرسة الفاشية والنازية
ليست للمدرسة الفاشية قيمة علمية أو اساس فلسفي، حتى نفصّل القول في بيانها ونقدها، ولكنها تمثل ذات الخط العسكري الذي نجده عند كل الحكومات القمعية تحت غطاء من الالفاظ الفارغة (النازية: بإسم الشعب الممتاز - اليهودية: بإسم الشعب المختار - الماركسية: بإسم ديكتاتورية الطبقية، والمَلَكية المطلقة: بإسم ظل الله في الأرض).
ولكن الفاشية قد بلغت الذروة في الوقاحة، حيث اعلنت ان الدولة والامة حقيقة واحدة، وان الدولة وحدة اخلاقية وسياسية واقتصادية، وهي كل شيء، والفرد لا شيء، وانها تتمثل في شخص الديكتاتور والذي يجسّد روح الأمّة. وما المجلس الّا اداة تقنين آرائه، والوزراء أدوات تنفيذية بيده، والحزب والنقابة، وسائل تدعيم مركزه.
والدولة وضعت للصراع مع سائر الدول التي تقاومها (أميركا، فرنسا، بريطانيا، دول الحلفاء ضدّ ايطاليا المتحدية لهم) والمدرسة النازية تشبه الى حدّ بعيد المدرسة الفاشية الا انها تقدس عنصراً معيّناً، وتسعى لجعله الاعلى، واستحالة او إبادة العناصر البشرية الأدنى أو المعادية (وهم غير الاروبيين وهكذا اليهود المعادين).
والماركسية تشبه الفاشية والنازية، في تقديس الدولة، ووضعها فوق النقد، الا انها تنتمي (ولو نظرياً) بالمدرسة الاجتماعية التي سوف نتحدث عنها- قريباً - إن شاء الله.
والتبرير الذي يمكن اقامته لظهور مثل هذه الدول الناشزة، والتي ليست بالقليلة عبر التاريخ وفي عصرنا الراهن (صدام في العراق والصهاينة في فلسطين و.. و..) هو إما إنتشار الفوضى واللامسؤولية في الامة، حتى تأتي الدولة الفاشية لملأ الفراغ، (ايطاليا) أو اشباع الشعب بالغرور والتطلّع لتأدية دور اكبر من طاقاتهم (اسرائيل - والمانيا النازية) أو إرهاب دولة كبرى يستفيد منه ديكتاتور ذكي تبريراً لتصرّفاته (صدام).
وانّى كان، فان المبادئ العقلية والوجدانية التي عرفناها سابقاً تدحض هذه التبريرات، وتكشف: ان السعادة والتقدم والنصر، لا تكون الا من حظّ الدول التي تخدم افراد الشعب وتعطيهم روح الكرامة والاستقلال وتنظّم طاقاتهم لتحقيق المبادئ السامية.
7/ المدرسة الخالصة
لقد تابع بعض الفقهاء القانونيين نظريات (هيجل) في وحدة الدولة والقانون امثال "ايرينغ" و"لا باند" و"لينك" و"غيركة".
وخلاصة نظرياتهم هي ان الدولة ذات شخصية مستقلة، وهي مصدر القانون، ولها الحق في وضعه وفرضه. على اختلاف بينهم في ان الدولة هل يحقّ لها ان تتمرّد على القوانين التي تضعها، أو عليها ان تتقيّد بها. ولكنهم يشتركون في مقولة: ان القانون وضع للدولة وليست الدولة وضعت من أجل القانون109.
ولكن النظرية التي ساهمت في اعطاء شخصية مستقلة للقانون، وحررّته من علاقاته بسائر الحقول المؤثرة فيه (الطبيعة - الدين - الفلسفة - التاريخ - المجتمع والاقتصاد) هي نظرية (كلسن) التي تسمى بالمدرسة الخالصة.
وبالرغم من ان نظريته ليست خالصة، لأنها تعتمد على خلفية علمية معينة، هي الفلسفة الوضعية، ولذلك لم تلق أذناً صاغية عند اكثر الحقوقيين من بعده. بالرغم من ذلك فان فيها نقاطاً ايجابية.
وتقوم نظريته على الاعتقاد بأن حقيقة القانون هي الإلتزام.؟ ويفرقّ بين ما هو كائن وما ينبغي ان يكون ويعتبر ما "ينبغي" هو القانون، ولكن أين يوجد الالتزام؟
إنما في الدولة لأنها المؤسسة الاجتماعية الاساسية التي يلتزم بها الناس عبر الميثاق أو الدستور. ويرى (كلسن) إن مسؤولية رجل القانون تتلخّص في وضع القانون المتناسق مع الدستور، والمتناغم مع سائر بنوده. فعلم القانون - كما علم الرياضيات - لا يهتّم بمحتوى القانون بل بشكله.
إن النقطة الايجابية في هذا المذهب: اهتمامه بالقانون من خلال خصيصة اساسية فيه، هو كونه اطاراً للنظام القائم أو قل: منظومة متناسقة من الالتزامات المفروضة على الناس بأمر سلطوي.
ولكن الانتقاد الكبير الذي يوجّه إليه؛ أنه يفصل إطار القانون عن محتواه، ثم ينكر الحق الطبيعي للإنسان قبل أن تكون هناك دولة أو نظام وقانون.
إن فصل القانون عن العوامل المؤثرة فيه يؤدي الى نتائج سلبية هي التالية:
أولاً: صحيح ان الدولة هي التي تضع القانون، ولكن صحيح ايضاً انها لا تضعه اعتباطاً، وإنما اعتماداً على معرفة مجمل الظروف المحيطة بالمجتمع، من ثقافة وعلاقات اجتماعية وسياسية وأعراف و. و.
ثانياً: الغاية المرجوّة من القانون تنظيم العلاقات الاجتماعية التي تتفاعل مع مؤثرات سياسية اقتصادية ثقافية وتاريخية، وغيرها، فكيف يمكن تنظيم العلاقات من دون الاهتمام بهذه العوامل المؤثرة فيها.
ثالثاً: هل يمكن تنفيذ القانون الذي لا ينبع من الظروف المحيطة، وهل يكتفي المشرّع بوضع القانون سواء نفذ أم لم ينفذ؟
رابعاً: كيف يمكن للقاضي ان يطبق القانون الصارم، ومن دون ملاحظة الظروف المحيطة وهل ذلك خدمة للحق ولغايات القانون110.
خامساً: انه هذه النظرية قائمة على اساس غير متين هو انكار القانون الطبيعي وتلك المبادئ الخالدة التي يهدينا اليها العقل والوجدان.