المتواجدون الآن ؟ | ككل هناك 34 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 34 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 433 بتاريخ السبت نوفمبر 16, 2024 10:07 am
|
احصائيات | هذا المنتدى يتوفر على 3105 عُضو. آخر عُضو مُسجل هو الكبيرالمصري فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 21139 مساهمة في هذا المنتدى في 5791 موضوع
|
|
| إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
نورسين عضو ذهبي
الجنس : عدد المساهمات : 315 نقاط : 471
| موضوع: إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف السبت أغسطس 27, 2011 5:06 am | |
| تقديـــــــــم [b]الحمد لله وحده، وبعد: فقد قرأت كتاب: (إن الله هو الحكم) لمؤلفه الشيخ: محمد شاكر الشريف، فوجدته كتاباً جيداً في موضوعه؛ فجزاه الله خيراً، ونفع بكتابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء --------------------------------------------------------------------- المقدمــــــــة الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل للناس رسله، وأنزل كتبه ليخرجهم بإذنه من الظلمات إلى النور إلى صراط الله العزيز الحميد. ولقد دعا كل رسول إلى توحيد الله -العلي الكبير- المتمثل في الشهادة بأنه لا إله إلا هو، وعبادته وحده دون ما سواه, وأن يكون أمره أمام كل أمر, ونهيه أمام كل نهي، وأن تكون الكلمة العليا في كل شأن هي له، بل لا كلمة لأحد -مهما عظم شأنه- في أي شأن من الشؤون مهما قلَّ شأنه، إلا إذا كانت امتثالاً لكلمة الله، أو كانت بإذنه ورضاه، الذي يدرك من النصوص الشرعية. وعلى مدى تاريخ الرسل الطويل في دعوة الناس كانت هناك انحرافات كثيرة عن صراط الله المستقيم، كان بعضها يتمثل في انغماس الناس في الدنيا وانهماكهم في الشهوات، والتكاسل عن أداء الواجبات والوقوع في المعاصي. لكن كان أفجر هذه الانحرافات وأشرّها هو الانحراف عن أصل الدين، عن التوحيد نفسه، وقد اتخذ هذا الانحراف مظاهر وصوراً متنوعة. وقد كان الانحراف عن حكم الله الحكيم الخبير، وابتغاء حكم غير الله -تعالى- أحد هذه الصور, التي انحرف الناس فيها عن توحيد العلي العظيم. وليس مكمن الخطر في هذا الانحراف -في أيامنا هذه- كونه مجرد انحراف أفراد -قلّوا أو كثروا-، ولكن مكمن الخطر في أن هذا الانحراف قد أُشربته حكومات ودول بكل ما تملكه هذه الحكومات والدول من سلطان وإمكانات، لفرض هذا الانحراف على المسلمين في عقائدهم أو في واقع حياتهم. وفي ظلِّ غربة الإسلام, وانتشار الجهل، وانحسار المفهوم الصحيح للإسلام في ذهن طائفة كبيرة من أمة المسلمين، انحصر الإسلام -على كماله وشموله- في بعض أجزائه، وعلى الرغم من خطورة تضييع أي جزء من المفهوم الشامل الكامل للإسلام, فإن من أخطر أنواع هذا التضييع والانحصار انحصار الإسلام في نطاق المفهوم الفردي أو الشخصي، بحيث أصبح مفهوم الإسلام على مستوى الدولة أو الحكم أو السياسة مفهوماً غير واضح المعالم، يشوبه كثير من الفوضى والاضطراب، بل وفي أحيان كثيرة أصبح الإسلام في هذا الجانب -عند الكثيرين- بلا مفهوم أو معنى. فماذا ترتب على ذلك؟ لقد ترتب على ذلك أن تسلط على كثير من بلاد المسلمين حكَّام مرتدون، قبلوا الأنظمة الكفرية، مثل: الديمقراطية، والعَلْمانيَّة, والاشتراكية وغيرها، وعملوا على التمكين لها في بلاد المسلمين، والجمهور الأعظم من المسلمين غير قادر على إدراك هذه الحقيقة، ومعرفة كفر هذا النوع من الحكم والحكَّام؛ لأن الإسلام انحصر في فهمه في المظاهر الفردية أو الشخصية، أي: في العلاقة بين الفرد وربِّه. فإذا جاء حكام مرتدون وتركوا الأحكام الشرعية المتعلقة بجماعة المسلمين على مستوى الدولة أو الحكم أو السياسة، واستعاضوا عنها بأحكام تناقضها من وضع البشر، ثم تظاهروا بعد ذلك ببعض الألفاظ أو المظاهر؛ كأن يظهر الواحد منهم وهو يصلي, انطلى أمره على أكثر المسلمين، وعَدُّوه مسلماً, وأعطوه على ذلك كل ما يجب للحاكم المسلم من حقوق، على الرغم مما يظهر من تسييره لجميع الشؤون السياسية، والاقتصادية, والقضائية، والاجتماعية, والأخلاقية, والتعليمية، والإدارية في بلده، على ما يناقض الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة الصحيحة. وانطلاقاً من تقدير هذه الخطورة البالغة على عقيدة المسلمين وعلى واقع حياتهم, كانت هذه الرسالة التي تحاول أن تعالج هذا الموضوع بطريقة واضحة ميسَّرة، لكي تنبِّه المسلمين وتُبصِّرهم, وتحذِّرهم الهاوية التي انحدروا إليها. وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفع بهذه الرسالة، وأن يجعل عملي فيها خالصاً لوجهه الكريم، وابتغاء مرضاته, إنه هو العليُّ الحكيم. محمد بن شاكر الشريف alsharif@albayn.co.uk تنويه: أشكر الأستاذ: معن بن حسين نعناع، على قيامه بالتدقيق اللغوي لهذه الطبعة. ------------------------------------ فصل في بيان أن تحكيم الشريعة والاحتكام إليها من التوحيد الذي أمر الله به عباده يقول الشيخ عبد العزيز ابن باز –رحمه الله- في بيان ذلك: «وتوحيد الله-عز وجل- الذي هو معنى لا إله إلا الله، يعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله بالحق، وتثبتها لله وحده، كما قال-سبحانه-:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ )[لقمان: 30].، وقال-تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19]. وقال -سبحانه-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [آل عمران: 18]. وقال -سبحانه-: ) وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ( [النمل: 51]. فتوحيد الله هو إفراده بالعبادة عن إيمان، وعن صدق، وعن عمل, لا مجرد كلام، ومع اعتقاده بأن عبادة غيره باطلة، وأن عُبَّاد غيره مشركون، ومع البراءة منهم، كما قال -عز وجل(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]. وقال-تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف: 26-27]. فتبرَّأ من عُبَّاد غير الله، ومما يعبدون. فالمقصود أنه لا بد من توحيد الله بإفراده بالعبادة والبراءة من عبادة غيره وعابدي غيره، ولا بد من اعتقاد بطلان الشرك، وأن الواجب على جميع العباد من جن وإنس أن يخصُّوا الله بالعبادة، ويؤدُّوا حق هذا التوحيد بتحكيم شريعة الله، فإن الله -سبحانه وتعالى- هو الحاكم, ومن توحيده الإيمان والتصديق بذلك, فهو الحاكم في الدنيا بشريعته، وفي الآخرة بنفسه -سبحانه وتعالى- كما قال -جلّ وعلا-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام: 57]. وقال-تعالى- : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) [غافر: 12]. وقال -سبحانه-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )[الشورى: 10]. (1)
وقال الشيخ -رحمه الله- أيضاً في هذا المعنى: «كل أمة بعث الله إليها رسولاً، لا يصح إسلامها، ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله، وإخلاص العبادة له -عز وجل- ومتابعة رسولها - صلى الله عليه وسلم - , وعدم الخروج عن شريعته، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده، وأخبر أنه هو دينه كما في قوله-عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]. وقوله-عز وجل-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19]. وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. الثاني: أن لا يُعبد إلا بشريعة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - . فالأول: يُبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده. والثاني: يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، ويُعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء. ولا يكون العبد مسلماً إلا بالأمرين جميعاً, كما قال الله -عز وجل-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) [الجاثية: 18-19]. وقال-سبحانه-: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. وقال-تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]. وقال-عز وجل-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47]. هذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله، وترشد الأمة حكومةً وشعباً إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به, والحذر مما يخالفه، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله -سبحانه- هو أحسن الأحكام وأعدلها، وأن الحكم بغيره كفر، وظلم، وفسق, وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله، والنهي عنه، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكِّم قادتها شريعة الله، وينفِّذوا حكمه في عباده، ويخلصوا له القول والعمل, ويقفوا عند حدوده التي حدَّها الله لعباده، إلى أن قال الشيخ-رحمه الله-:«وهذا (2) الأصل الأصيل, والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعضّ عليه بالنواجذ، وينشر بين جميع الطبقات، حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عمَّا يخالفه، وإني لأنصح إخواني أهل العلم والقائمين بالدعوة إلى الله-سبحانه- بأن يعنوا بهذا الأصل العظيم، ويكتبوا فيه ما أمكنهم من المقالات والرسائل حتى ينتشر ذلك بين الأنام، ويعلمه الخاص والعام؛ لعظم شأنه وشدَّة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلوّ في تعظيم القبور، ولاسيما قبور من يسمونهم بالأولياء، واتخاذ المساجد عليها، وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر وغير ذلك، ولما وقع-أيضاً- بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها» (3) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- مبيِّناً هذا الأمر: «إنّ الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبيَّة؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمَّى الله-تعالى-المتبوعين في غير ما أنزل الله-تعالى-أرباباً لمتَّبعيهم، فقال -سبحانه-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]. فسمَّى الله-تعالى- المتبوعين أربابا حيث جُعلوا مشرِّعين مع الله-تعالى- وسمَّى المُتَّبِعين عباداً حيث إنهم ذلُّوا لهم، وأطاعوهم في مخالفة حكم الله-سبحانه وتعالى-» (4) . ولقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة على تأكيد هذا المعنى وتثبيته، وبيان أن الله هو الحَكَم, وأن الحُكْمَ له وحده-سبحانه وتعالى-، وإذ بينت النصوص الشرعية أن الله هو الحَكَم، وأن الحكم له وحده، وهو أمر متعلق بالله كان ذلك من العقيدة التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها ويؤمن بها، ويعمل على تحقيقها في واقع نفسه، وواقع أمته.
ومن النصوص الدالة على أن الحُكْمَ لله وحده لا شريك له فيه قوله-تعالى-: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26]. وقوله-تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف: 40]. وقوله-تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [الأنعام:57]. وقوله-تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [يوسف: 67]. وقوله-تعالى-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى: 10]. وقوله-تعالى(ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر: 12]. وقوله-تعالى-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )[القصص: 88]. وقوله-تعالى-: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [القصص: 70]. وقوله -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]. وقوله-تعالى-: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62]. وقوله -تعالى-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد: 41]. فهذه عدَّة آيات تدلّ دلالة قاطعة على أن الحكم لله وحده لا يشركه في ذلك أحد؛ سواء كان مَلَكاً مقرَّباً, أو نبيّاً, أو رسولاً, فضلاً عن أن يكون فرداً أو طائفة من عموم الناس. وهذه الآيات المتعددة بما دلت عليه من المعنى المشار إليه تمثل جزءاً من عقيدة المسلمين التي يجب عليهم أن يعتقدوها في الله ربهم، فكما يجب على المسلمين اعتقاد أن الله له الخلق والرزق والإماتة والإحياء، فكذلك يجب عليهم اعتقاد أن الله له الأمر والنهي والحكم والتشريع. ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في محاجّته للمشركين منكراً عليهم: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام: 114]. وما دلت عليه الآيات القرآنية من كون الله هو الحَكَم، وأن الحُكْم له وحده، قد دلت عليه أيضاً السنة الصحيحة؛ فعن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعه وهم يكنون هانئاً أبا الحكم، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له: «إن الله هو الحَكَمُ وإليه الحكم، فلِمَ تُكنى أبا الحكم؟».. (5) فقصَّ عليه هانئ سبب ذلك، فكنَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكبر أبنائه شريح، فقال له: «فأنت أبو شريح»، وأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكنية بأبي الحكم ومن سبب ذلك: «أن الله هو الحكم وإليه الحكم». يقول ابن الأثير معلقاً على ذلك: «وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله في صفته» (6) . وفي دعاء الاستفتاح في صلاة التهجد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «وإليك حاكمت» (7) ، قال في اللسان: «أي: رفعت الحكم إليك ولا حكم إلا لك» (8) .
وهذه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وما ماثلها دالة دلالة قطعية على أن الله-تبارك وتعالى- هو الحكم، وأن الحكم له وحده لا يشركه فيه أحد، وأن هذا من عقيدة المسلمين في الله ربهم, والحقيقة أن هذا أمر ينبغي إدراكه ببداهة العقول؛ فالله تعالى هو الذي خلق وهو الذي رزق وهو الذي أحيا وهو الذي يملك لا شريك له في كل ذلك، ومن كان هذا شأنه فهو وحده الذي يستحق أن يحكم لا يشركه في حكمه أحد. وإذا كان القول: أن الله هو الحكم وأن الحكم له وحده، يمثل جزءاً من عقيدة المسلمين في الله ربهم، فإنه يعني من جانب آخر أن المسلم لا يُقر بذلك لأحد دون الله-تبارك وتعالى- هذا فضلاً عن أن يدعي ذلك لنفسه، أو لغيره.
ومما تقدّم يتبين أن من ادَّعى أنه هو الحَكَم وأن الحُكْم له (9) -سواء كان هذا المدَّعي فرداً، أو جماعة, أو هيئة، أو مؤسسة، أو مجلساً نيابيّاً، أو مجلساً شعبيّاً، أو (برلماناً) أو غير ذلك من المسمَّيات-فقد ادَّعى مشاركته لله -تبارك وتعالى- في ذلك. وليس يخفى على أحد ممن يعلم حقيقة دين الإسلام أن مثل هذا الادعاء هو من الكفر بالله رب العالمين. ومما تقدم يتبين-أيضاً- أن من أقرّ بهذه الدعوى لأحد دون الله-تبارك وتعالى- فقد أقرَّ بالشريك لله-تبارك وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً-, ولا يخفى -أيضاً- أن ذلك من الكفر الأكبر، نعوذ بالله من كل سوء. __________ [size=16](1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز: 2/19- 20. (2) المشار إليه هو توحيد الله-سبحانه وتعالى- ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، المذكوران في أول كلام الشيخ -رحمه الله-. (3) مجموع فتاوى الشيخ: 2/254-257. (4) المجموع الثمين: 1/33 ، [مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين]. (5) أخرجه النسائي: كتاب: آداب القضاة، باب: إذا حكموا رجلاً فقضى بينهم (8/226). وأبو داود: كتاب: الآداب، باب: في تغيير الاسم القبيح (3/296 عون المعبود)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع. (6) لسان العرب: 2/952. (7) أخرجه البخاري: كتاب: التهجد. (8) لسان العرب: 2/952. (9) من الجدير بالذكر أن الأنظمة الديمقراطية تدعي أن الحَكَم الذي له الحُكم وحده هو الشعب أو الأمة، وكل الأنظمة الديمقراطية تدَّعي هذه الدعوى، انظر في ذلك: «حقيقة الديمقراطية» للمؤلف. ----------------------------------------------------------------------------------------- فصل في بيان مفهوم الحكم بما أنزل الله مع الجهل بحقيقة الإسلام والبعد عنه، ومع جهود المحادِّين لله ورسوله، أخذت عدَّة مفاهيم شرعية تتغير في عقول الناس وتتبدَّل, وتنحرف عن معناها الأصلي، ومن تلك المفاهيم التي أصابها الضُّمور في عقول الناس: مفهوم الحكم بما أنزل الله، فقد انحصر مفهوم الحكم بما أنزل الله على شموله واتساعه في بعض أجزائه؛ فبعضهم يحصره في التشريعات والأحكام المتعلِّقة بالأسرة من زواج، وطلاق، وحضانة وغير ذلك، والبعض الآخر يحصره في العقوبات الشرعية من الحدود (1) وغيرها، والبعض الآخر يحصره في مجرد كلمة عائمة مجملة تكتب فيما يسمونه «الدستور» أو ما شابهه من المسميات، من غير أن يكون لها تأثير في واقع الحياة الرسمية. ونماذج بتر المفهوم الصحيح للحكم بما أنزل الله كثيرة ومتنوعة ومختلقة باختلاف أهواء البشر وضلالاتهم وجهالاتهم. ولا بد لنا في هذه الرسالة من بيان المفهوم الصحيح للحكم بما أنزل الله. وإذا رجعنا إلى معنى كلمة «الحكم» نجد أن من معانيها المتعلقة بموضوعنا القضاء والفصل في الأمور، ولها بهذا المعنى استخدامان، يدل عليهما الكثير من النصوص الشرعية:
الأول: القضاء والفصل في الأمور المعينة اعتماداً على تشريع سابق, ويكون دور القاضي أو الحاكم في هذه الحالة البحث في نصوص التشريع عما ينطبق على الحالة المعروضة، ثم يحكم فيها بما يدل عليه ذلك التشريع، ويدل على هذا الاستخدام لمفهوم كلمة الحكم قوله -تعالى-: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58]. وقوله -تعالى-: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة: 42]. وقوله-تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) [المائدة: 44]. وغير ذلك من النصوص المشابهة. فالمراد بالحكم في هذه النصوص وما شابهها: القضاء والفصل في الأمور على وفق التشريع المنزل من عند الله تبارك وتعالى. وهذا النوع من الحكم ليس خاصّاً بالله-تبارك وتعالى- ولا يمنع المسلم من مزاولته، فكل مسلم استوفى شروط القضاء المعروفة يمكن نصبه لمزاولة هذا النوع من الحكم، وطبيعة هذا النوع من الحكم أن يتعلق بوقائع معينة محددة. الثاني: القضاء والفصل في الأمور بغير اعتماد على تشريع سابق, أو القضاء والفصل في الأمور اعتماداً على تشريع يضعه القاضي أو الحاكم من قِبَل نفسه، وليس موضوعاً له من قِبَل أحد غيره. فهذا الاستخدام للفظ الحكم يكون الحكم فيه بمعنى التشريع المُبتدأ الذي يبتدئه الحاكم من عند نفسه من غير أن يمليه عليه أحد، أو يتبع فيه أحداً، وقد يصحبه بعد ذلك الحكم بالاستخدام الأول، وقد لا يصحبه. وفعل الحاكم في هذا النوع من الحكم أنه يضع من عند نفسه التشريع، ويبين الأحكام المترتبة على الأقوال، والأفعال، والتصرفات. وقد يحكم الحاكم بعد ذلك في قضية أو واقعة معينة بناءً على هذا التشريع، وقد لا يحكم فيها بنفسه، بل يتركه لغيره. ويدل على هذا الاستخدام للفظ «الحكم» قول الله -تعالى-: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة: 10]. وقوله-تعالى-: (وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ) [المائدة: 43]. وقوله -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام:57]. وقوله -تعالى-: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) [الأنعام: 62]. وقوله -تعالى-: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26]. وقوله -تعالى-: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) [الأنعام: 114]. وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى. فالمراد بالحكم في هذه النصوص وما شابهها إحداث تشريع مبتدأ للحكم في القضايا، سواء كانت قضايا كلية عامة أو كانت قضايا معينة محددة. وليس من الغريب-على من يفهمون حقيقة دين الإسلام- معرفة أن هذا النوع من الحكم مختصٌّ بالله رب العالمين، لا يشركه فيه أحد من خلقه. ومن هنا يتبين أن الحكم بما أنزل الله يراد به: 1- الإيمان بالتشريع المنزل من عند الله-تبارك وتعالى- وقبوله, واتِّباعه, والدعوة إليه، وعدم إحداث شيء يناقضه. 2- القضاء والفصل في الأمور على وفق تشريع الله الذي جاء به الكتاب والسنة، وإفراد الكتاب والسنة بهذه المنزلة. ومن هنا يتبين –أيضاً- أن مفهوم الحكم بما أنزل الله مفهوم واسع يشمل كل ما جاءت به النصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو دلَّت عليه. فمثلاً: 1- مال الدولة الإسلامية: تحديد موارده، وتحديد مصارفه، وكيفية الاكتساب في الإسلام، وما يحلّ منه وما يحرم، كل ذلك يشمله مفهوم الحكم بما أنزل الله. 2- ثروات الأمة المخزونة في باطن الأرض أو على ظاهرها: ما يكون منها ملكاً للدولة، وما يكون ملكاً للأفراد, وكيفية توزيع ثروات الأمة بين أبنائها بالحق والعدل، بحيث لا يستأثر بها فريق دون آخر، وكل ذلك يشمله مفهوم الحكم بما أنزل الله. 3- صفات الوالي، وما يشترط فيه من الشروط وواجباته، وحقوقه، وكيفية اختياره أو عزله -إن اقتضى الأمر- كل ذلك يشمله -أيضاً- مفهوم الحكم بما أنزل الله. 4- العلاقات الخارجية: علاقات الدولة الإسلامية بغيرها من دول الكفر: ما حدود العلاقات؟ هل هي حرب؟ أم سلم؟ أم هدنة مؤقتة؟ أم غير ذلك؟ كل ذلك يشمله مفهوم الحكم بما أنزل الله. 5- مخالفات الناس ومعاصيهم, وما يترتب على ذلك من عقوبات قد تكون حدّاً، وقد تكون تعزيراً، يشمله -أيضاً- الحكم بما أنزل الله. 6- العلاقات الأسرية: من زواج وطلاق، وحضانة، وخلع، وعدة، ومتعة، كل ذلك يشمله الحكم بما أنزل الله، وهكذا. فالحكم بما أنزل الله مدلول أشمل وأوسع من مجرد ما يظنه كثير من الناس، إذ ما من آية أو حديث فيهما حكم من الأحكام الشرعية، إلا كان القول أو الحكم بما دلت عليه الآية أو الحديث داخلاً في مفهوم الحكم بما أنزل الله. ولعله يصبح من الواضح جدّاً الآن أن مطالبة المطالبين بالحكم بما أنزل الله لا تعني: تنفيذ أحكام الأسرة فقط، أو تنفيذ الحدود الشرعية فقط، وإنما تعني الالتزام الكامل التام بكل الأحكام الشرعية التي دلت عليها النصوص، والحكم بموجبها، وتهيئة جميع الظروف والأحوال أمام الناس لكي يتمكنوا من التقيد بشرع الله -تبارك وتعالى- والالتزام به، فلا يقال عن نظام -مثلاً- إنه ملتزم بالحكم بما أنزل الله وهو في الوقت نفسه لا يتيح الفرصة لموظفيه والعاملين فيه أن يؤدوا الصلوات في مواقيتها! ولا يقال عن نظام إنه ملتزم بالحكم بما أنزل الله وهو يوصد أمام الناس أبواب الحلال من المطاعم والمشارب والمناكح، ويفتح لهم أبواب الفسق والفساد والفجور على مصاريعها. ولا يقال -أيضاً- عن نظام إنه يحكم بما أنزل الله بينها هو يحارب الدعاة إلى الله أشد المحاربة، ويفسح المجال كاملاً أمام أصحاب العقائد المنحرفة والبدع المهلكة. ولا يقال عن نظام إنه يحكم بما أنزل الله -وإن ذكر في دستوره أن مبادئ الشريعة الإسلامية، أو الشريعة الإسلامية، أو الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع- بينما محاكمه مفتَّحة الأبواب يُقضى فيها بين الناس بما يناقض حكم الكتاب والسنة. __________ (1) بل إن بعض الناس إذا ذكر أمامه لفظ «الحكم بما أنزل الله» فلا يكاد يفهم منه غير قطع يد السارق، أو رجم الزاني، ويتصور أن هذا هو المراد بالحكم بما أنزل الله، وأن الداعين إلى تحكيم شرع الله إنما يدعون فقط لقطع يد السارق أو رجم الزاني، ولقد كان هذا الفهم القاصر والمبتور للحكم بما أنزل الله أحد الوسائل والسبل التي يستغلها العَلْمانيون لمهاجمة الدعوة إلى تحكيم شرع الله. ------------------------------------------------------------------------------------ فصل في أوصاف تارك الحكم بما أنزل الله والمتحاكم إلى غير شريعة الله لما كان الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتحاكم إليهما من عقيدة التوحيد التي هي فرض عين على كل مسلم، كان الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتحاكم إليهما هو ديدن عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، ولم يكن لهم من قول يقولونه إذا دعاهم داعٍ إلى الكتاب والسنة غير: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). وبذلك وصفهم الله -تبارك وتعالى- في كتابه فقال: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51]. وإذا كان الله-تبارك وتعالى- قد وصف المستجيبين السامعين الطائعين لحكم الكتاب والسنة بالإيمان، فقد وصف التاركين للحكم بالكتاب والسنة المتحاكمين إلى غيرهما بأوصاف ذميمة تناسب قبح فعلتهم وتكشف عن سوء دخيلتهم، وتنفر الناس من سلوك سبيلهم، ومن تلك الأوصاف التي وصفهم الله بها ما يلي: 1- الكفر: فقد وصفهم الله-تبارك وتعالى- وحكم عليهم بأنهم كافرون فقال-تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. 2- الظلم: ووصفهم الله-تبارك وتعالى- وحكم عليهم بأنهم ظالمون فقال: -ومن أصدق من الله قيلاً-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]. 3- الفسق: ووصفهم وحكم عليهم بأنهم فاسقون فقال -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 47].
4- عدم الإيمان: ووصفهم وحكم عليهم بعدم الإيمان فقال –تعالى(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [المائدة: 43]. وقال -تعالى-: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) [النور: 47]. وقال –تعالى(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36]. وقال -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. وقال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
5- التحاكم إلى الطاغوت: ووصفهم الله -تبارك وتعالى- بالرغبة في التحاكم إلى الطاغوت وتحكيمه، فقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 60]. 6- اتباع الهوى: ووصف الله -تبارك وتعالى- من يعدل عن حكمه وهو الحق بأنه قد عدل إلى اتِّباع الهوى، وذلك في قوله -تعالى-: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26]. وقال -تعالى-: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة: 48]. 7- ابتغاء حكم الجاهلية: ووصف الله -تبارك وتعالى- من يريد حكماً غير ما حكم به العليّ الكبير بأنه يريد حكم الجاهلية، فقال -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]. 8- النفاق: ووصفهم الله -تبارك وتعالى- بالنفاق، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 61]. 9- مرض القلب والشك والارتياب وعدم الثقة في عدل الأحكام الشرعية: وقد وصفهم الله -تبارك وتعالى- بذلك في قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [النور: 48-50]. 10- الشرك: وقد وصفهم الله -تبارك وتعالى- بالشرك في قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21]. ووصفهم بذلك -أيضاً- في قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]. والفتنة هنا: هي الشرك. 11- تقليد الكفار والمشركين: وقد وصفهم الله بذلك في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) [البقرة: 170].
فهذه أوصاف وأحكام بيّنها الله في كتابه لمن يتركون الحكم بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو يتحاكمون إلى غيرهما. نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينجينا من سوء صنيعهم وفعالهم وأن لا يؤاخذنا بجرمهم. -------------------------------------- فصل في ذكر أقوال طائفة من أهل العلم قديماً وحديثاً في تكفير من ترك حكم الله ورسوله وعدل إلى ما سواه من القوانين الوضعية (1) 1- شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر؛ فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتِّباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر؛ فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية بينهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالا.. والحكم به (بما أنزل الله) واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكلِّ من تبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر» (2) . 2- الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول ابن كثير في تفسير قوله -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]: «ينكر-تعالى- على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خ ... ير، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع له الياسق: وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى؛ من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل أو كثير» (3) . 3- الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: الياسق: -كما عرفه ابن كثير- (هو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها واضعها [جنكيز خان] من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه) والياسق بهذا التعريف هو قانون وضعي. قال الشيخ في معرض شرحه لقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 60] قال: «من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ورغب عنه، وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما أمره الله -تعالى- به في قوله(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة: 49]. وقوله -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده، فقد خلع رِبْقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله -تعالى- أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: ) يَزْعُمُونَ(. من نفي إيمانهم؛ فإن: (يَزْعُمُونَ) إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب؛ لمخالفته لموجبها، وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحِّداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيِّن في قوله -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) [البقرة: 256]، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به» (4) .
4- الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله: قال الشيخ: «إن الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين، منزلةَ ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين».. «وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، من المنافقين، كما قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 60]. فإن قوله -عز وجل-[ يَزْعُمُونَ] تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتقٌّ من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه».
وقال الشيخ بعدما ذكر قوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47] قال -رحمه الله-: «فانظر: كيف سجل -تعالى- على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يُسمِّي الله -سبحانه- الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد». ويبين الشيخ أنواع كفر الاعتقاد، فيقول: « أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم: أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة. الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقّاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع: إما مطلقاً، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا -أيضاً- لا ريب أنه كفر؛ لتفضيله أحكام المخلوقين -التي هي محض زبالة الأذهان وصِرفُ حثالة الأفكار- على حكم الحكيم الحميد. الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة؛ لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة؛ لقوله -عز وجل-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]. ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرُّد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين: في الذات، والصفات، والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه. الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكنه اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليهم؛ لاعتقا | |
| | | نورسين عضو ذهبي
الجنس : عدد المساهمات : 315 نقاط : 471
| موضوع: رد: إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف السبت أغسطس 27, 2011 5:09 am | |
| [size=25]فصل في بيان كيفية تحليل القوانين الوضعية الحرامَ المُجمع عليه وتحريمها الحلالَ المُجمع عليه وتبديلها الشرع القانون -كما يعرّفه العلماء به، والمتخصصون فيه- هو: «مجموعة القواعد التي تحكم سلوك الأفراد في الجماعة، بحيث يتعين على كل فرد أن يخضع لها طوعاً أو كرهاً, ومتى رفض الفرد الانقياد لها وإطاعتها فإن الدولة تقسره على ذلك» (1) .
وعلى ذلك فالقانون هو المعنيُّ ببيان أحكام الأقوال والأفعال والتصرفات الصادرة من الأفراد أو المجموعات، وتحديد ما يترتب عليها من نتائج والتزامات، والإلزام بها طوعاً أو كرهاً. والقانون الوضعي -كما مرَّ- هو القانون الذي يضعه الناس -فرداً كانوا أو جماعة- من عند أنفسهم، انطلاقاً من الرغبات والأهواء، والآراء والتصورات والتجارب. ومن هنا يتبين أن القانون الوضعي: هو القانون المعنيُّ ببيان أحكام الأقوال والأفعال والتصرفات الصادرة من الأفراد، وتحديد ما يترتب عليها من نتائج والتزامات، والإلزام بها طوعاً أو كرهاً، انطلاقاً من أهواء ورغبات، وآراء وتصورات وتجارب فرد أو طائفة من الناس. ولئن كان يترتب على ذلك أن واضعي القانون الوضعي قد جعلوا أنفسهم أنداداً لله -تبارك وتعالى- حيث جعلوا من أنفسهم أرباباً للناس يُشرّعون لهم، ولئن كان يترتب على ذلك -أيضاً- أن من يقبل القانون الوضعي، ويرضى به، قد أشرك بالله -تعالى- حيث ابتغى حكماً غير الله -تعالى-... فإنه يترتب على ذلك أن القانون الوضعي يقوم على مناقضة الشريعة الإسلامية، حيث جعل قاعدة الحكم وأصل التحاكم لغير الله الحكيم الخبير.
وحيث جعل القانون الوضعي قاعدة الحكم وأصل التحاكم لغير الله -تبارك وتعالى- فإن هذا يكفي في إثبات تبديل القانون الوضعي الشرعَ، وتحريم الحلال، وتحليل الحرام، حتى وإن كانت فيه بعض الأحكام المأخوذة أو الموافقة للأحكام الشرعية، وذلك أن هذه الموافقة -والحالة هذه- إنما هي موافقة من حيث الشكل والصورة، وأما من حيث الحقيقة والجوهر فإن الحكم المتفق شكلاً وصورة قائم على أساس جعل الحكم والتحاكم لغير الله -تبارك وتعالى-، بينما الحكم الشرعي قائم أساساً على جعل الحكم والتحاكم لله الذي خلق السماوات والأرض. ولئن كان الذي قدمناه كافياً في إثبات تحليل القانون الوضعي الحرامَ، وتحريمه الحلالَ؛ من حيث الأصل والقاعدة، فإن هذا لا يمنعنا من بيان ذلك على مستوى الأحكام التفصيلية: ? من حيث تحريم الحلال: فما نهت عنه هذه القوانين من قول أو فعل أو تصرف، ورتبت على إتيانه والوقوع فيه العقوبةَ؛ أصبح جريمة، وشيئاً قبيحاً، ولم يعد مباحا يمكن أن يأتيه الإنسان من غير تبعات، بل يؤاخذ به، ويوقف به أمام القضاء -القاضي بتلك القوانين- ليلقى جزاء ما أتى من فعل أو قول أو تصرف حسبما نصَّت عليه القوانين، فماذا يعني ذلك؟! إنه يعني بكل وضوح: أن القانون يحرم هذا الأمر، ويعده جريمة يعاقب عليها، فلو كان هذا الشيء المُجَرَّم بمقتضى القانون الوضعي قد أباحته أحكام الله ورسوله، كان هذا منعاً وتحريماً لما أباحه الله ورسوله. ولنضرب على ذلك مثلاً بتعدد الزوجات، فقد أباحته الشريعة الإسلامية حتى أربع زوجات، بنصوص قطعية، لا يتطرق إليها أدنى شك. فإذا جاء نص في قانون ليمنع تعدد الزوجات صراحة، أو يرتب على الزواج بامرأة ثانية بعض العقوبات بدنية كانت أو مالية أو غير ذلك كأن يلزمه -مثلاً- بتطليق الأولى؛ كان هذا منعاً وتحريماً لما أباحه الله ورسوله، وكان هذا -أيضاً- تبديلاً لحكم الله، ورسوله؛ فإن الشريعة الإسلامية من الكتاب والسُّنة قد حكمت حكماً عامّاً بإباحة تعدد الزوجات، والقانون قد حكم حكماً عامّاً بمعاقبة من ينفذ حكم تعدد الزوجات، فالشريعة الإسلامية تجعل حكم التعدد الحل والإباحة، والقانون يجعل حكم التعدد المنع والحظر، فهل هذا إلا عين تبديل الأحكام الشرعية، وتحريم ومنع ما أحلَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟! والأمثلة على تحريم الحلال كثيرة، وليس القصد سردها كلها أو بعضها، وإنما القصد بيان كيفية حدوث هذا التحريم. * من حيث تحليل الحرام: وتحليل الحرام في القانون الوضعي يأخذ أكثر من صورة:
* من هذه الصور: صورة تقييد نطاق المنع والتحريم بقيود وشروط، بحيث يُصبح الفعل خارج نطاق القيود والشروط المذكورة، غير مجرَّم لا يؤاخذ به، ولا يعاقب عليه، ولا تثريب على من أتاه. ولنأخذ مثلاً على هذه الصورة، وهي الأحكام المتعلقة بجريمة الزنا، فالزنا قد حرمته نصوص الشريعة تحريماً قاطعاً عامّاً ومطلقاً، بحيث لا يباح الزنا في أي حال من الأحوال، فإذا جئنا إلى أحكام بعض القوانين التي تشترط لمنع الزنا وعقوبة فاعله شروطاً معينة، مثل أن يقع الزنا بالإكراه، وليس بالتراضي، أو إذا كانت الفتاة غير بالغة حدّاً معيناً من السن، أو كانت تمارسه الفتاة بأجر (يعني بغاء) وليس من قبيل الهواية أو الحرية الشخصية، أو تكون متزوجة (إذا اشتكاها زوجها) كان هذا من القانون إباحة وتحليلاً للزنا في غير تلك الحالات الممنوعة، فإذا حدث بالتراضي من فتاة غير متزوجة قد بلغت السن القانونية، وليس بأجر، فإنه لا تثريب عليها في ذلك، فإذا لم يعاقب القانون على الزنى إذا وقع بالشروط السابقة، وعاقب على الزنى إذا وقع بالمخالفة للشروط المتقدمة كان معنى هذا أن الزنى في الحالة الأولى مباح، بينما يكون ممنوعاً في الحالة الثانية. فماذا يعني هذا؟ ألا يعني ذلك أن الزنى غير معاقب عليه في هذه الصورة؟! وماذا يعني هذا -أيضاً-؟! ألا يعني أن القانون لا يرى في الفعل -بهذه الشروط- جريمة تستحق الإنكار والعقوبة؟! وهل هذا إلا تبديل لحكم الله ورسوله؟ وهل هذا إلا تحليل وإباحة لما حرَّمه الله ورسوله؟! والحقيقة أن الأحكام المتعلقة بهذا الباب من القوانين الوضعية أحكامٌ صارخة في معاندة ومعارضة أحكام الله ورسوله، وحريصة كل الحرص على إفساد رجال الأمة ونسائها. * ومن هذه الصور: صور إقرار الحرام والسكوت عنه، فإذا تركت القوانين شيئاً مما يجري في حياة الناس وفي تعاملاتهم ولم تتعرض له بأمر ولا نهي، ولم ترتِّب عليه ثواباً ولا عقاباً، كان هذا دليلاً على أن القانون لا يرى في هذا الشيء بأساً، ولا يرى في فعله أو تركه حرجاً؛ لأن القانون -كما ذكرنا- هو المعنيُّ ببيان أحكام الأفعال والأقوال والتصرفات، وترتيب النتائج عليها، والإلزام بها طوعاً أو كرهاً، فإذا لم يضع القانون لأمر يجري في حياة الناس حُكْماً محدداً بل تركه وسكت عنه، دلَّ ذلك على أن القانون لا يرى أن هذا الأمر ما يستدعي أن يتعرض له، ولذلك تركه وسكت عنه، ولم يلزم الناس أو يقسرهم تجاهه على شيء ما. فماذا يعني هذا؟! إنه يعني إقرار هذا الأمر وإباحته، فإذا كان هذا الأمر قد حرَّمته الشريعة، فإن هذا يعني أن القانون قد أقر الحرام، وسكت عن تجريمه ومنعه.
فإذا افترضنا أن أحد الأشخاص أتى هذا الأمر، فقام شخص آخر ورفع أمره إلى القضاء؛ فبأي شيء يقضي القضاء المتحاكم إلى هذا القانون الوضعي؟! والإجابة سهلة وميسورة، إن القاضي لن يجد أي شيء يستطيع به أن يحاسب هذا الشخص، وسيقضي بأنْ لا وجه لإقامة أي شيء ضده؛ لأن الفعل أو القول أو التصرف الذي أتاه لم يمنعه القانون ولم يحرمه، ولم يضع له عقوبة، ومن ثم فلا حرج عليه في فعله. خذ لذلك -مثلاً- الربا، فقد حرَّمته نصوص الشريعة تحريماً قاطعاً، حرَّمه الله في كتابه، وحرَّمته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأجمع المسلمون قاطبة على تحريمه، ومع ذلك فلا نجد في القوانين الوضعية أدنى إشارة إلى النهي عن الربا أو التحذير منه، أو وضع أي عقوبة لفاعله، بل الذي نجده في القانون أكثر من مجرد السكوت والإقرار، حيث نجد كيفية تنظيم الربا بين الأفراد والمؤسسات والتحريض على فعله. أإذا رفع أمر المرابي إلى القضاء الحاكم بمثل هذا القانون فماذا يقول القاضي؟! أيكون له جواب غير قوله: إن الربا أمر لم يحرِّمه القانون! ولم يرتِّب عقوبة على فاعله! ومن ثم فإن المرابي غير مخطئ! لأنه لم يأت شيئاً منعه القانون، بل الأمر أكبر من ذلك! أإذا طالب المرابي بتحصيل الربا الذي له أيملك القاضي إلا أن يحكم له بحقه في الربا -المال الزائد- الذي جعله له القانون.
والأمثلة على تحليل الحرام كثيرة، وليس القصد الاستقصاء وإنما ضرب المثل. ولعله قد اتضح الآن كيفية تبديل القوانين الوضعية للشرع المنزَّل، وتحريمها الحلال المجمع عليه، وتحليلها الحرام المجمع عليه، وهذا كفر -كما قال شيخ الإسلام- بإجماع المسلمين. __________ (1) المدخل للعلوم القانونية، د. توفيق فرج ص 15، المدخل، لحجازي، 1/147، نقلاً عن الشريعة الإلهية للدكتور عمر الأشقر ص 23. -------------------------------------------- فصل في بيان حقيقة أقوال أساء بعض الناس فهمها وعلى الرغم من صراحة الأحكام التي مرت في تارك الحكم بما أنزل الله، ووضوحها، فقد أساء كثير من المعاصرين فهم بعض الأقوال الصحيحة في تفسير قوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. فأنزلوها على غير مواضعها! ولم يحققوا مناطها، مما أحدث لبساً، وأوجد فتنة، ترتَّب عليها تفريق الصف، وتوهين قوة المسلمين، وتقوية جانب المغيِّرين المبدِّلين. ولا أجد قبل مغادرة هذه النقطة من البحث بُدّاً من التعرض لهذه الأقوال، والكشف عن حقائقها ومراميها، وتصويب أفهام الخاطئين فيها. القول الأول: كفر دون كفر (1) : وهو أحد الأقوال التي وردت في تفسير هذه الآية مما يرويها المفسرون عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، والنقل عن ابن عباس وغيره في ذلك كثير مشهور، وقد عارض البعض في صحة نسبة ذلك لابن عباس، لكن جمهور المفسرين والمتحدثين في تلك المسألة يرون صحة نسبة ذلك له رضي الله تعالى عنه، لكن السؤال الذي ينبغي أن يدرك المتكلمون في هذا الأمر جوابَه الصحيح: في حق مَنْ تُقال هذه الكلمة؟ هل تُقال هذه الكلمة في حق كل أحد حكم بغير ما أنزل الله؟! بغير ضوابط ولا قيود؟ أم هل تُقال في حق حكام لم يقبلوا شرع الله كله أو بعضه؟! أم هل تقال في حق من بدَّل شرع الله كله أو بعضه؟! أم هل تقال في حق من آثر على شرع الله شرعاً آخر؟! أم هل تقال في حق من طرح شرع الله كله أو بعضه وراء ظهره, وأتى بقانون وضعي قدَّمه على شرع الله، وأنزله منزلة أعلى مما نزل بها شرع الله؟! أم هل تقال في حق من جعل التحاكم عند التنازع إلى ما وضعه البشر بعقولهم وأهوائهم, ولم يجعله إلى شرع الله؟! هل كان في زمن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من العلماء من فعل ذلك من الحكام، أو قريباً منه, حتى يمكن أن يحمل حامل كلامهم عليه؟! والجواب الذي لا جواب غيره: أنه لم يكن ذلك أبداً، وأن الثابت تاريخيّاً أنه لم يحدث منذ عصر الصحابة -رضوان الله عليهم- حتى مجيء التتار واستيلائهم على ديار المسلمين، أن وُجد حاكم سنَّ تشريعاً أو قانوناً مناقضاً لشرع الله، وأعلنه شرعاً متَّبعاً عامّاً يحكم به بين الناس. وأول ما حدث هذا حدث بعد استيلاء التتار على بلاد المسلمين، وأعلنوا الياسا (الياسق) شرعاً عامّاً متبعاً يُحكم به بين الناس، وقد تبين لنا ما نقلناه عن الحافظ ابن كثير -فيما مضى- أن هذا كفر بإجماع المسلمين؛ فما القصة إذن في قولهم: «كفر دون كفر»؟ ولنعد إلى القصة من بدايتها حتى يتم تصويب هذا الأمر في ذهن من أخطؤوا فهمه، ولنقدم بين يدي ذلك بذكر أصلين ينبغي لنا الإحاطة بهما ومعرفتهما معرفة جيدة. الأصل الأول: أن من لم يقبل حكماً من أحكام الله أو أحكام رسوله، أو أي شيء جاء عن الله أو عن رسوله -بعد علمه بأنه من دين الإسلام- فقد كفر والعياذ بالله؛ لأن حقيقة الإسلام هو الاستسلام الكامل لله -تعالى- وحده، وقبول كل ما جاء عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن لم يستسلم وأبى الانقياد - ولو لحكم واحد من أحكام الله ورسوله- فقد استكبر، ومن استسلم وانقاد لغير الله فقد أشرك، وكلا الأمرين خروج وردّة عن الإسلام، فلا يكون المرء مسلماً حتى يستسلم استسلاماً كاملاً لله -تعالى- وحده، لا يشرك معه في ذلك أحداً. الأصل الثاني: أن مَنْ قَبل ما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما حكم الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عصى بعد ذلك وارتكب المحرمات، غير مستحل لها معترفاً بجرمه وإثمه فهو مسلم، وليس بكافر، وهو في المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له. ثم مآله في آخر الأمر إلى الجنة، بإذن الله.
والأصل الأول: هو ما يقول به كل مسلم شهد لله الواحد القهار بالإلهية، وشهد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، ومن لم يقل به فليس بمسلم، نسأل الله العفو ونعوذ به من الخذلان. والأصل الثاني: هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذي لا يكفرون بمطلق الذنوب، ولا يخلدون أصحاب المعاصي في النار، خلافاً للخوارج والمعتزلة، ومن تابعهم. وإذ تبين لنا هذان الأصلان؛ فإن القصة تعود إلى وجود مخالفات ومعاصٍ كانت تصدر حيناً من أفراد الرعية، وكانت تصدر حيناً آخر من الحكام والولاة والأمراء، وكان من منهج الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر، فإذا رأوا أحداً جارَ في حكمه بأن ظلم حكموا بكفره، انطلاقاً من فهمهم لقوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. ولم يفرقوا في ذلك بين من يدخل تحت «الأصل الأول»، ومن يدخل تحت «الأصل الثاني»، وأنزلوهما جميعاً منزلة واحدة.
من هنا انطلق أهل العلم من الصحابة والتابعين ليبينوا لهم ولمن سلك سبيلهم أن الكفر الحاصل ممن يدخلون تحت «الأصل الثاني» -وقد كان الحكام والولاة والأمراء في عصرهم ممن يدخلون تحته- إنما هو كفر دون كفر أو كفر أصغر، يعني: هو كفر لا ينقل عن ملة الإسلام؛ لأن الحكام في عصرهم قبلوا ما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقبلوا أحكام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان القضاء العام عندهم تبعاً لشريعة الله، وإن كانوا يعصون الله في بعض وقائع الأعيان -من غير أن يمثل ذلك تشريعاً عامّاً مغايراً لشرع الله- وهم مع ذلك معترفون بخطئهم وتقصيرهم.
وننقل إلى هنا ذلك الحوار الدائر بين أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي- أحد ثقات التابعين- وبين نفر من الإباضية -إحدى فرق الخوارج- لتتضح الظروف والأحوال، والواقع الذي كان يقال فيه: «كفر دون كفر». روى ابن جرير الطبري المفسِّر بإسناد صحيح عن عمران ابن حدير، قال: أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس، (وهم نفر من الإباضية، كما في الرواية الأخرى)، فقالوا: يا أبا مجلز: أرأيت قول الله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [المائدة: 44]. أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]. أحقٌّ هو؟ قال: نعم. قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47]. أحقٌّ هو؟ قال: نعم. فقالوا: يا أبا مجلز: فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرَق, قال: أنتم أولى بهذا مني لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى، وأهل الشرك، أو نحواً من هذا» (2) .
فمن هذا النص الواضح يتبين أن ذلك النفر من الإباضية كانوا يرون تكفير حكام زمانهم، وأنهم سألوا أبا مجلز عن هذه الآيات حتى تكون حجة لهم عليه. ويتبين -أيضاً- أن أبا مجلز لا يقول بكفر حكام زمانه. لكن لماذا يقول ذلك أبو مجلز؟ إنه لم يقل ذلك اتباعاً للهوى، ورغبة في إرضاء السلطان!! ولم يقل ذلك لأن الحكم بغير ما أنزل الله يكون دائماً وأبداً كفراً أصغر. كما أنه لم يكن دافعه إلى ذلك الجهل، وعدم المعرفة بالأحكام الشرعية. ولكن أبا مجلز ينطلق من معرفة صحيحة بالأحكام الشرعية، وفهم دقيق للواقع الذي يعيش فيه -وهما دعامتا الفتوى الصحيحة- فهو يقول عن حكام زمانه: «الحكم بما أنزل الله هو دينهم الذي به يدينون، وهو قولهم الذي به يقولون، وهو دعوتهم التي إليها يدعون، ثم إنْ هم تركوا منه شيئاً عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً». وكيف يمكن تكفير مَنْ هذا حاله وإخراجه من زمرة المسلمين؟!
ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها أن كل من تكلم من العلماء بقول: «كفر دون كفر» يتبين من كلامهم أن المراد بهذا القول هو ذلك الصنف من الحكام الذين قبلوا أحكام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتخذوا شريعة مغايرة لها، لكنهم قد يخالفون في بعض الوقائع بدافع الهوى أو الشهوة، مع اعترافهم بأن حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق لا ما خالفه، وأنهم عاصون مستحقون للعقوبة.
وبعد هذا الوضوح والبيان في بيان معنى قولهم: «كفر دون كفر» يصبح من التضليل المقصود أو الجهل الفاضح المزري بصاحبه الاحتجاجُ بهذه الآثار على عدم تكفير الحكام الذي سنُّوا قوانين مناقضة لما حكم الله به أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلوها الشرع الحاكم، والقضاء العام، الذي يُقضى به بين الناس، كما هو الحاصل الآن في الأغلب الأعم من بلاد المسلمين، حيث استعاضوا عن أحكام الشرع المحكم المنزل على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بقوانين وضعية اقتبسوها من الكفار، المحاربين لله ورسوله من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وقدموها عليه، وجعلوا الحكم بها والتحاكم إليها.
ولهذا يقول الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر في تعليق له على الآثار المذكورة: «كفر دون كفر»: «وهذه الآثار -عن ابن عباس وغيره- مما يلعب به المضلون في عصرنا هذا ، من المنتسبين إلى العلم، ومن غيرهم من الجرَّاء على الدين، يجعلونها عذراً وإباحة للقوانين الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين» (3) .
ويعلق أيضاً أخوه العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر على هذه الآثار، ويرد على الذين يريدون أن يتخذوا منها مطيَّة لتسويغ خروج الحكام عن شرع الله، ويبين أن سؤال هؤلاء النفر من الإباضية لأبي مجلز -الذين مرَّ ذكرهم- لم يكن عن «القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ». وإذا لم يكن سؤالهم عن ذلك فلا يجوز الاحتجاج إذن بردِّ أبي مجلز عليهم في تسويغ فعل من يفعل ذلك من الحكام في عصرنا الحاضر، ولذلك فإن العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر يكمل كلامه السابق، ويبين الوصف الشرعي الصحيح، لمن يفعل ما ذكره في الفقرة السابقة، فيقول: «فهذا الفعل إعراض عن الله وحكمه، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله -سبحانه وتعالى-، وهذا كفر لا يَشكّ أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به والداعي إليه» (4) . ويجب أن نؤكد في هذا المقام أموراً، منها: 1- أن كلمة: «كفر دون كفر»، لا تعني التقليل أو التهوين من جرم هذه المخالفة، ولهذا يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- في هذه الكلمة: «وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر؛ كالزنى، وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها؛ فإنه معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً» (5) .
2- أن من نسب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من العلماء -اعتماداً على كلمة: «كفر دون كفر»- عدمَ تكفير الحكام الذين استبدلوا القوانين الوضعية بالأحكام الشرعية، وقدموها عليها، وجعلوا الحكم بها والاحتكام إليها؛ فقد افترى عليه وعليهم كذباً عظيماً، ولا يستطيع أحد أن ينقل (ولا) حرفاً واحداً عن ابن عباس أو غيره في عدم تكفير من سبق وصفهم من الحكام، وكيف يمكن ذلك وتكفيرهم أمر مجمع عليه كما تقدم؟! 3- أن كلمة «كفر دون كفر» قد أفرط في استخدامها طائفتان من الناس على بُعْد ما بينهما من الاختلاف: الطائفة الأولى: طائفة المضلين من المنتسبين إلى العلم، الجرَّاء على دين الله، المسارعين في إرضاء ذوي السلطان، الحريصين على مُتَعِهِمْ وشهواتهم، الراغبين في زخرف الحياة الدنيا، يقولون ذلك لينالوا الحظوة والمكانة عند السلطان، ويُغدق عليهم الأموال، ويوزِّع عليهم المناصب والرياسات، (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) [البقرة: 174]. الطائفة الثانية: طائفة منتسبة إلى العلم وطَلَبهِ، نظروا إلى قول ابن عباس وغيره من العلماء، ولم ينظروا أو يتفقَّهوا في ملابسات هذا القول، وكيفية تطبيقه على الواقع، وظنُّوا أن القول بعدم تكفير من سنَّ قوانين مناقضة لأحكام الله ورسوله، وجعلها شرعاً عامّاً وقضاءً متَّبعاً، ظنُّوا أن عدم التكفير فتوى سلفية، وأن الذي ينطبق في حقِّ هؤلاء الحكام -المغيِّرين المبدِّلين- هو عدم التكفير، والنظر إليهم على أنهم مسلمون انطلاقاً من قوله: «كفر دون كفر», ومن ثَمَّ راحوا يردِّدون هذا القول، ويجمعون طرقه وأسانيده، ويروِّجون له بين الناس على أنه مذهب السلف الذي ينبغي اتِّباعه، بل ذهب بعضهم إلى ما هو أكثر من ذلك حيث عدُّوا ما خالف قولهم -الباطل- بدعة يجب تركها والتوبة منها. وإلى مثل هؤلاء الغافلين الذين لا يعيشون واقعهم، ويطلقون الفتاوى والأحكام، وكأنهم يعيشون في القرن الأول أو الثاني الهجري، وليس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، إلى هؤلاء نسوق كلاماً محكماً لإمام من أئمة مذهب سلفنا الصالح في عصره ألا وهو الحافظ ابن قيم الجوزية -رحمه الله-؛ عسى أن يكون معيناً لهم على إدراك الحق في هذه المسألة، حيث يقول الشيخ في بيان أنواع الفهم التي تؤدي إلى الحكم بالحق: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فَهْمُ الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فَهْمُ الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر» (6) . ومثل هذا الذي نقلناه عن ابن القيم من أهمية فهم الواقع والفقه فيه حتى يكون الحكم أو الفتوى الشرعية منطبقة عليه انطباقاً صحيحاً؛ يذكره -أيضاً- شيخه شيخ الإسلام عندما سُئِلَ عن حكم قتال التتار فقال: «نعم؛ يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبنيٌّ على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم. والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم» (7) . ثم شرع يفصِّل الأصلين. والمقصود أنه ينبغي لمن يتكلم في الأحكام الشرعية أن يكون عارفاً معرفة صحيحة بالواقع الذي يريد تطبيق الحكم الشرعي عليه، وإلا أتى بالطامَّات!
فلا يكفي في النظر إلى الفتوى على أنها فتوى سلفية، وتطبيقها على الواقع المراد مجرد ورودها عن السلف، حتى يعرف مناطها، والحال أو الواقع الذي قيلت فيه، فإذا استخدم المفتي أو المتكلم في الأحكام الشرعية المأثور عن السلف بضوابطه التي استخدموه بها كانت الفتوى حينئذ فتوى سلفية، أما إذا جهلوا ذلك أو حادوا عنه، واستخدموا المأثور عن السلف بغير ضوابطه وقيوده، لم تكن الفتوى حينئذ فتوى سلفية، حتى وإن كانت الكلمة أو الجملة المأثورة واردة عن السلف.
يوضح ذلك ويبيّنه أن ابن تيمية وابن كثير وغيرهما من العلماء الذي مرَّ ذكرهم -وهم من أتباع السلف قطعاً- قد ذكروا هذا المنقول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره في كتبهم، وارتضوه، ومع ذلك فقد حكموا بكفر من ذكرناهم من الحكام، ولم يتقيدوا بهذا المأثور عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، لما رأوا عدم تحقق المناط واختلاف الواقع والحال. ولو تنبَّه الكثيرون ممن يتكلمون في هذا الأمر -بغير بصيرة- إلى ما نقلناه، وتفقهوا فيه، وعملوا به، لردَّهم ذلك إلى الصواب إن شاء الله. * مفارقة عجيبة: هذا الموضع قد زلَّ فيه فريقان، وهما على طرفي نقيض. الفريق الأول: الخوارج؛ حيث اشتطوا في التكفير وغلوا اعتماداً على ما ظنوه تطبيقاً لقوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، فكفَّروا المسلمين، بل كفَّروا مَنْ إيمانه ثابت بإجماع المسلمين، مثل: الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الفريق الثاني: بعض المنتسبين إلى العلم وطلبه -دع عنك المضلين وأصحاب الأهواء- دفعهم غلوّ الخوارج ومن قفا قفوهم إلى غلوٍّ في الجانب المقابل، فاشتطّوا في ترك التكفير وغلوا فيه؛ اعتماداً على ما ظنوه تطبيقاً للمأثور من قولهم: «كفر دون كفر»، فتركوا تكفير من كُفْرُهم ثابت بإجماع المسلمين؛ كالذين ابتغوا حُكماً غير حكم الله ورسوله، وطبَّقوه في بلادهم على الرعية جبراً وقسراً، وطاردوا أو عذبوا أو سجنوا أو قتلوا كل من دعاهم أو طالبهم بالرجوع إلى حكم الله ورسوله. القول الثاني (من الأقوال التي أُسيء فهمها): (قولهم: نزلت في أهل الكتاب):
والنقل بهذا -أيضاً- صحيح عن طائفة من أهل العلم، ووجه الإساءة عند من لم يفهم حقيقة هذا القول ظنهم أن قول: (نزلت في أهل الكتاب)، يعني: إن هذا الحكم مختص بأهل الكتاب، وأنه لا يشمل المسلمين، أو بمعنى آخر: إن الإنسان من أهل الكتاب إذا حكم بغير ما أنزل الله يكون كافراً، بينما إذا حكم المسلم بغير ما أنزل الله لا يصير كافراً، بل يظل مسلماً. وما نحب أن نسجله هنا -قبل التعرض لتصويب الأفهام في هذا الموضع- أن القائلين: إنها نزلت في أهل الكتاب، حملوا الكفر الوارد في الآية على الكفر الأكبر المخرج من الملة ( 8) ، وليس على الكفر الأصغر الذي هو «كفر دون كفر». وإلا لما حُكي هذا القول على أنه قول ثانٍ في المسألة.
والحقيقة التي لا ريب فيها أن قولهم: «نزلت في أهل الكتاب»، ليس في بيان اختصاص أهل الكتاب بهذا الحكم وحدهم دون سواهم، وإنما ذلك لبيان أسباب نزول هذه الآيات، وأنها نزلت بسبب أهل الكتاب الذين اخترعوا شرعاً ( 9) من عند أنفسهم -في بعض أمورهم- وقدَّموه على ما شرعه الله لهم، وكون هذا سبب النزول لا يعني قصرها على أهل الكتاب، ويبين لنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية بوضوح، فيقول: «وقد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصاً؛ كأسباب النزول المذكورة في التفسير؛ كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، وأن قوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) نزلت في بني قريظة، وبني النضير، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.
والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً ونهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته أيضاً» (10) .
فابن تيمية يبين هنا أن قولهم: «نزلت في كذا» لا يراد منه قصر اللفظ العام على سبب نزوله. والنصوص العامة منها ما جاء أو ورد على سبب، ومنها ما جاء عامّاً من غير سبب، فأما الأخير فلا اختلاف في عمومه. وأما ما ورد منها على سبب فإننا في هذه الحالة أمام قولين لعلماء الأصول: الأول: وهو أن العبرة بعموم اللفظ الوارد لا بخصوص السبب. الثاني: وهو أن العبرة بخصوص سبب النزول لا بعموم اللفظ الوارد. فأما على القول الأول -وهو العبرة بعموم اللفظ- فلا إشكال في تناول الآية لكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله؛ لأن لفظ (من) الوارد في الآية من ألفاظ العموم، وعلى ذلك فالآية تتناول أهل الكتاب كما تتناول غيرهم ممن يشملهم عموم اللفظ. وأما على القول الثاني -وهو أن العبرة بخصوص السبب- فإن شيخ الإسلام يُبين أن هذا القول لا يراد منه قصر اللفظ العام على سبب نزوله، وإنما غاية ما في هذا القول: أن اللفظ العام الوارد على سبب لا يكون العموم فيه بحسب اللفظ العام الوارد في النص مع قطع النظر عن السبب، وإنما يكون العموم فيه مقصوراً على نوع السبب، فيعم بذلك اللفظ العام الوارد في النص السبب وما يشبه السبب.
وعلى هذا؛ فإن القول بأن الآية نزلت في أهل الكتاب لا يعني قصرها عليهم وحدهم دون غيرهم، ولكن يعني أن هذه الآية نزلت في فعل أهل الكتاب، فهي إذن تشملهم وتشمل كل من كان بمنزلتهم وفعل مثل فعلهم، وعلى ذلك فكل من شابه أهل الكتاب في اختراع قانون وتقديمه على شرع الله، وجعل التحاكم إليه دون التحاكم إلى شريعة الله تناولته الآيات الحاكمة بالكفر على أهل الكتاب. وبنحو مما قال ابن تيمية قال غيره من العلماء، فيقول الحافظ ابن حجر في تفسير هذه الآيات: «ويظهر أن الآيات وإن كان سببها أهل الكتاب لكن عمومها يتناول غيرهم» (11) . ثم ينقل الحافظ عمَّن سبقه من العلماء ما يؤيد قوله، فيقول: «وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن بعد أن حكى الخلاف في ذلك: ظاهر الآيات على أن من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكماً يُخالف به حكم الله، وجعله ديناً يُعمل به، فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره» (12) . * صفة فعل أهل الكتاب: لكن ما صفة الفعل الذي أتاه أهل الكتاب حتى نزل فيهم قوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. ذلك ما يخبرنا عنه أصحاب الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقد أخرج البخاري ( 1) ومسلم (2) وغيرهما من أصحاب السنن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعاً، فقال لهم: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتَّجبية، قال عبد الله بن سلام (13) : ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتى بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما» هذا لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم عن البراء بن عازب قال مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محمما مجلودا فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: « هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم »؟،قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ ». قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ». فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ )إلى قوله( إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يقول ائتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
فأنزل الله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في الكفار كلها" (14) فهذا الحديث فيه: 1- أن رجلاً وامرأة من اليهود قد أحدثا جميعاً؛ يعني: زنيا. 2- أن العقوبة التي شرعها الله فيمن يأتي هذا الفعل منهم هي الرجم. 3- أن آية الرجم موجودة في كتابهم لم تُمح ولم تغير ولم تبدل. 4- أن اليهود لم يستحلوا الزنى بل هو باقٍ على تحريمه عندهم. 5- أن أحبار اليهود -يعني: علماءهم- قد أحدثوا لهم عقوبة مغايرة لما حكم الله به من الرجم، وهي التحميم: أي تسويد الوجه، والتجبية: أي: إركابه دابة بحيث يكون وجهه إلى قفا الدابة, وقفاه إلى وجهها. 6- أن هذه العقوبة المحدثة صارت تشريعاً عامَّاً بديلاً عما شرعه الله من العقوبة.
فكان إحداث تشريع أو حكم مناقض لما حكم الله به، وجعله تشريعاً عامّاً يُقضى به بين الناس، ويكون إليه المرجع عند الحكم أو القضاء؛ كان ذلك هو الكفر بالله العظيم، وبشرعه القويم، وأي كفر أعظم من أن يشرع الله شرعاً أمراً أو نهياً أو عقوبة أو غير ذلك، فيأتي بعض الناس أو أحدهم -على أي صفة كانوا- فيشرع شرعاً مناقضاً لما شرعه الله، ويجعله بديلاً عن تشريع الله، يقدمه في الحكم والقضاء والفصل في الخصومات على ما شرعه الله؟! أي كفر أعظم من هذا؟! وإذا لم يكن هذا من الكفر المغلظ فما هو الكفر إذن؟!
والمتصفِّح لدساتير وقوانين كثير من الحكومات التي تسيطر على كثير من بلاد المسلمين والتي يكون الحكم والقضاء والمعاملات والفصل في الخصومات تابعاً لنصوصها، يجد أو يرى فيها -بغير عناء- إحداث تشريعات أو عقوبات مناقضة لما حكم الله به، ويرى أفعالاً قد حرمتها الشريعة، ووضعت لها العقوبات، بينما لا يجد أثراً في هذه الدساتير أو القوانين لتجريم هذه الأفعال، فضلاً عن وضع عقوبة لمن فعلها. * لا تعارض بين القولين: «نزلت في أهل الكتاب» و «كفر دون كفر». قد يظن بعض الناس أن قول من قال: «نزلت في أهل الكتاب» يعارض قول من قال: «كفر دون كفر». والحقيقة أن القولين متكاملان وليسا متعارضين. فإن قول: «كفر دون كفر» إنما هو لبيان صفة الحاكم الذي لا يخرجه حكمه المخالف عن ملّة الإسلام. وقول: «نزلت في أهل الكتاب» إنما هو لبيان صفة الحاكم الذي يخرجه حكمه المخالف عن ملة الإسلام، فالقولان على ذلك متكاملان؛ لأن كل قول منهما يعالج حالة غير التي يعالجها القول الآخر، وليس أدل على ذلك من أن بعض من رُوي عنه «كفر دون كفر» رُوي عنه -أيضاً- أنها «نزلت في أهل الكتاب». وهذا يدل على أنه يعني بأحد القولين صنفاً من الحكام غير الصنف الذي يعنيه بالقول الآخر، ومن ثم فلا تعارض بين القولين. * فائدة نفيسة: ويحسن بنا ونحن في هذا السياق أن نسوق فائدة نفيسة، أوردها شيخ الإسلام فيما يتعلق بتعدد الأقوال في نزول الآية الواحدة، قال الشيخ -رحمه الله-: «قولهم -أي: السلف- نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا... وإذا عُرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا؛ إذا كان اللفظ يتناولهما» (15) . __________ (1) والمراد بهذه الكلمة: أن هذا الفعل يسمى كفراً، ولكنه دون الكفر المخرج من الملة. (2) تفسير ابن جرير 10/347 تحقيق أحمد شاكر، والأثر صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، تَفْرَق: تخاف أو تجزع. (3) عمدة التفسير 4/156. (4) تفسير ابن جرير 10/348. (5) تحكيم القوانين: 24- 25. (6) إعلام الموقعين 1/87 -88. (7) مجموع الفتاوى 28/510. (8) ولا تخالف بين هذا القول وقول (كفر دون كفر)، على ما سنبين لاحقاً إن شاء الله. (9) وكما قد يكون هذا الشرع المخترع بتحريم حلال أو تحليل حرام، فإنه يكون -أيضاً- بتغيير العقوبة التي قررها الله على عمل محرَّم إلى عقوبة أخرى مغايرة مع الإبقاء على تحريم العمل. (10) مقدمة في أصول التفسير، وهي ضمن مجموع الفتاوى 13/338- 339. (11) أخرجه البخاري كتاب الحدود رقم 6819 (فتح الباري: 12/131). (12) انظر: شرح النووي: 11/208. (13) عبد الله بن سلام كان حبراً من أحبار اليهود، ولكن الله منَّ عليه وهداه إلى الإسلام، فرضي الله عنه وأرضاه. (14) أخرجه مسلم كتاب الحدود رقم 1700 (15) مجموع الفتاوى: 13/339- 340.[/size] | |
| | | نورسين عضو ذهبي
الجنس : عدد المساهمات : 315 نقاط : 471
| موضوع: رد: إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف السبت أغسطس 27, 2011 5:10 am | |
| [b][size=25]فصل في بيان متى يكون الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً كفراً لا يخرجه من الملّة؟ وقد آنَ لنا عند وصولنا إلى هذا الموضع أن نبين الضوابط والشروط التي ينبغي توافرها في الحاكم بغير ما أنزل الله حتى لا يحكم عليه بالكفر المخرج من الملّة. وهذه هي الشروط: 1- أن يكون ملتزماً ومتقبّلاً ظاهراً أو باطناً لكل حكم أو تشريع جاء عن الله -سبحانه وتعالى- أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، على أي نحو من الأنحاء، وفي أي جانب من الجوانب، فإذا لم يلتزم أو يتقبل ولو حكماً واحداً، بعد علمه بأن هذا الحكم مما جاء عن الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ صار بذلك كافراً مرتدّاً والعياذ بالله. والنقول عن العلماء بهذا الشرط كثيرة، نتخير منها قول شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول الشيخ: «والحكم بما أنزل الله واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكلّ من تبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر» (1) . أما «من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة» (2) .
2- أن يكون مقراً ومعترفاً بأنه بترك الحكم بما أنزل الله -سبحانه وتعالى- في القضية أو الواقعة المعينة التي يحكم فيها؛ صار آثماً، وأن حكمه خطأ وأن حكم الله هو الصواب. والنقول عن العلماء بهذا الشرط كثيرة -أيضاً- نختار منها ما مرَّ بنا في كلام أبي مجلز في بيان سبب عدم حكمه بالكفر الأكبر على حكام عصره، حيث يقول: «فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً». ونختار منها -أيضاً- قول الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- حيث يقول: «وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج عن الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- لقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44] قد شمل هذا القسم، وذلك في قوله -رضي الله عنهما-: «كفر دون كفر». وقوله -أيضاً-: «ليس بالكفر الذي تذهبون إليه». وذلك أنْ تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى» (3) .
فإذا قال الحاكم بلسان حاله أو فعاله، أو عن طريق دستوره وقانونه، أو وسائل إعلامه المتحدثة باسم حكمه ونظامه، أو غير ذلك من الطرق والأساليب التي بها تُعرف الآراء والأفكار والأقوال: إن حكمه أفضل مما حكم الله -تعالى- به أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أن حكمه مساوٍ لحكم الله أو رسوله، أو إن حكم الله ورسوله كان هو الأصلح والأفضل في الزمن الماضي، وأن حكمه هو الأفضل أو الأصلح للعصر الحاضر، أو إن حكم الله ورسوله هو الأصلح والأفضل لكل زمان ومكان، ولكنه غير واجب عليه، ويجوز له أن يحكم بما يراه هو مناسباً، أو فيه المصلحة، أو محققاً للعدل ولو كان مخالفا لما أنزله الله تعالى. لو قال هذا كله أو بعضه صار بذلك كافراً مرتداً -والعياذ بالله-.
3- أن يكون الحكم المخالف حكماً في وقائع الأعيان، وليس في الأمور الكلية العامة. وهذا الشرط الثالث مما غمض فهمه والتنبُّه له على كثير من المعاصرين، الذين تكلموا في هذا الموضوع، لذا لم يذكروه أو يشيروا إليه في كتبهم أو أحاديثهم (4) . فوقائع الأعيان هي : القضايا المعينة المحددة التي لا عموم لها ولا شيوع، ويكون الحكم فيها -وهو من قبيل القضاء- متعلقاً بهذه الواقعة مختصّاً بها وبالظروف المحيطة بها، فلا يشكل هذا الحكم حينئذ حكماً عامّاً أو شرعاً متبعاً. وأما الأمور الكلية العامة فهي: الأمور التي لا تختص بزمان أو مكان أو شخص، بل يشمل الحكم فيها جميع الأفراد والوقائع والتصرفات الذين يشملهم عموم هذه الأمور الكلية العامة، والحكم في هذه الكليات العامة هو من قبيل التشريع، فليس الحكم فيها مختصّاً بواقعة معينة بما يكتنفها من ظروف أو ملابسات، وحينئذٍ فإن هذا الحكم يُشكل حكماً عامّاً وشرعاً متَّبعاً. ووقائع الأعيان للمسلم أن يحكم أو يقضي فيها متى استجمع شروط ذلك من العلم والعدالة، ونصبه من يجوز نصبه للقضاء فإذا حكم فيها أو قضى بغير الحق والعدل عُوقب على مخالفته الحق والعدل اللذين أوجب الله عليه أن يحكم أو يقضي بهما، وأما الكليات العامة فليس لأحد من الخلق أن يحكم فيها، بل الحكم فيها لله رب العالمين، مالك الملك، ذي الجبروت، لا إله إلا هو. وليس أمام المسلم إلا أن يقبل ويلتزم ويتابع.
فإذا حكم فيها الإنسان -على خلاف ما جاء في الشرع القويم- كان منازعاً لله ومدعياً -حالاً أو مقالاً- اسماً من أسماء الله العلي الكبير. وقد عقد شيخ الإسلام ابن تيمية لذلك فصلاً لطيفاً كان مما جاء فيه: «فصل فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه، وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه، بل الحكم فيه على جميع الخلق لله -تعالى- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره، ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة، وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها». ثم ذكر شيخ الإسلام بعض المسائل، وقال: «وليس المقصود ذكر هذه المسائل، بل المقصود ضرب المثل بها»، إلى أن قال: «الحاكم إذا كان ديِّناً (5) لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص. وأما إذا حكم حكماً عامّاً في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقّاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عمَّا أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 70], (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح: 28] (6) . ومن أمثلة القضايا الكلية العامة: الحكم بحلِّ شيء ما أو حرمته، أو إيجاب شيء، أو النهي عنه، وترتيب الجزاء عليه من عقاب أو ثواب، أو ما شابه ذلك. – فالذي يعطي الشيء وصف الحل هو الله تبارك وتعالى. – والذي يعطي الشيء وصف التحريم هو الله سبحانه وتعالى. – والذي يحدد ثواب الفعل الصالح هو الله سبحانه وتعالى. – والذي يحدد عقاب الفعل القبيح هو الله سبحانه وتعالى. – والذي يحدد صحة الشيء أو فساده وبطلانه هو الله تبارك وتعالى. فكل هذه الأمور وما كان على شاكلتها لا كلام فيها لأحد، بل التحليل والتحريم والأمر والنهي والحكم بالصحة أو بالفساد أو البطلان كل ذلك لله رب العالمين.
ويتبين من هذا أن هذه القضايا الكلية العامة لو حكم فيها أحد بغير ما أنزل الله، وقال أنا أعترف بأني آثم، وأن حكمي خطأ وأن حكم الله هو الصواب؛ لم ينفعه ذلك، ولم يكن قوله هذا أو اعترافه عاصماً له من الحكم بكفره وردته وحل ماله ودمه؛ لأن هذه القضايا الحكم فيها هو تشريع فيكون الحاكم فيها -والحالة هذه- شارعاً لما يناقض حكم الله ورسوله، جاعلاً من نفسه ندّاً لله. والمقصود أن الحكم في وقائع الأعيان: هو حكم في قضايا معينة محددة-قلت أو كثرت- يرتبط بالظروف والملابسات المحيطة بها، ولقد جاء في كتب الأصول: «أن وقائع الأعيان لا عموم لها» وهذا يعني أنها لا تمثل قاعدة عامة؛ ولذا فإن الحكم في وقائع الأعيان -المخالف لحكم الله- لا يمثل حكماً عامّاً أو تشريعاً شاملاً، وإنما يمثل انحرافاً جزئياً في التطبيق، متى كان الحكم العام المعلن الذي يجب الرجوع إليه هو حكم الله ورسوله. وأما الحكم العام أو الكلي: فهو تشريع يشمل كل الجزئيات التي تندرج تحت العموم المستفاد من الحكم العام أو الكلي؛ ولذا فإن الحكم -على الجزئيات- المخالف لحكم الله -تبارك وتعالى- في ظل الحكم الكلي أو العام لا يمثل انحرافاً في التطبيق، وإنما يمثل التزاماً وتطبيقاً صحيحاً للحكم الكلي أو العام، وذلك لأنه هو الحكم العام المعلن الذي يجب الرجوع إليه والمخالفة هنا هي من الكفر المخرج من الملّة والعياذ بالله, بينما المخالفة في وقائع الأعيان من الكفر الذي لا يخرج من الملّة. ولأضرب لكم مثلاً يوضح الفرق بين الحكم في وقائع الأعيان، والحكم الكلي العام؛ فلنفترض أن حاكماً أو قاضياً عُرض عليه سارق، فحكم بأن السرقة حرام، وحكم بأن عقاب السارق هو قطع اليد، وحكم على هذا السارق المعين -نظراً لقرابة أو صداقة أو منفعة يرجوها، أو مضرة يدفعها، أو ما شابه ذلك- بغير القطع وليكن الجلد أو الحبس مثلاً، والتمس له المعاذير والحجج الواهية لكي يفلت من عقوبة القطع؛ فهنا ثلاثة أحكام: الحكم الأول: وهو حكمه أن السرقة حرام، فهذا حكم عام يشمل كل سرقة. الحكم الثاني: وهو حكمه أن عقاب السارق القطع، فهو حكم عام -أيضاً- يشمل كل من ينطبق عليه لفظ السارق. الحكم الثالث: وهو حكمه على هذا السارق المعين -نظراً للظروف والملابسات التي أحاطت بالسارق- بالجلد أو الحبس، وهو حكم خاصّ بهذه الواقعة، ولا يشكل حكماً عامّاً بحيث يحكم به في كل واقعة تُعرض عليه، وإنما الحكم العام عنده في هذه المسألة هو القطع، وإنما خالفه في هذه الواقعة المعينة للملابسات التي أسلفناه ذكرها.
فمتى كان عند القاضي أو الحاكم الحكم بحرمة السرقة والحكم في عقابها أو حدّها القطع، ثم خليت الواقعة المعروضة عليه من مثل المؤثرات التي ذُكرت فإن حكمه حينئذ سيكون بقطع يد السارق. ومثل هذا القاضي أو الحاكم في المثل المضروب بالشروط المذكورة هو الذي يقال في حكمه المخالف للشرع «كفر دون كفر»، أو «كفر لا يخرج من الملة»، ولكن بشرط الاعتراف بخطئه وإثمه في هذا الفعل الذي فعله. وأما إذا حكم القاضي أو الحاكم بأن السرقة ليست حراماً وأنه لا عقوبة على السرقة، فيكون هنا حكمان: الأول: الحكم بأن السرقة ليست حراماً، وهذا حكم عام غير مرتبط بظروف أو ملابسات. الثاني: الحكم بأنه لا عقوبة على السرقة، وهذا -أيضاً- حكم عام. والحكم العام متى كان مخالفاً لحكم رب العالمين كان استبدالاً لحكم البشر بحكم رب العالمين، وابتغاء لحكم الجاهلية أو حكم الطاغوت، ولا ينفعه حينئذ أن يقول أنا أعترف أن حكمي خطأ، وأن حكم الله هو الصواب وأني آثم بذلك الفعل، لا ينفعه مثل هذا الإقرار أو الاعتراف (7) ؛ لأنه شرع شرعاً عامّاً مناقضاً ومخالفاً لحكم رب الأرض والسماء.
وقد يحدث -وهو الواقع فعلاً- أن يحكم القاضي أو الحاكم بأن السرقة حرام، وأن عقاب السارق الجلد أو الحبس أو القتل مثلاً. فهنا حكمان أيضاً: الأول: الحكم بأن السرقة حرام، وهذا حكم عام يشمل كل سرقة. الثاني: أن عقاب السارق الجلد أو الحبس أو القتل، وهو حكم عام -أيضاً- غير مرتبط بظروف أو ملابسات أو مؤثرات، ومعنى ذلك: أن القاضي أو الحاكم سوف يحكم في كل قضية سرقة -توافرت أركانها- على السارق بالجلد أو الحبس أو القتل. وإذا كان الحكم الأول -وهو الحكم بحرمة السرقة- مما يوافق حكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الحكم الثاني -وهو حكم عام غير مرتبط بظروف أو ملابسات خاصة- مما يناقض حكم الله ورسوله، ولا ينفعه هنا -أيضاً- القول بأنه مخطئ، وأنه آثم؛ لأن الحكم العام تشريع، والتشريع لا يكون إلا لله الواحد القهار، ومن شرع فقد جعل نفسه إلهاً مع الله، تعالى عن ذلك علواً كبيرا، وقد مر بنا أن اليهود كانوا مقرين بحرمة الزنا لكنهم غيروا في عقوبته ومن هنا يتبين لنا أنه متى كان التشريع العام مناقضاً لشرع الله كان الكفر الصريح -والعياذ بالله-، ولا ينفع صاحبه أي اسم تسمَّى به، أو أي دعوة ادَّعاها.
فلا بد إذن -في الحكم الإسلامي- أن تكون الشريعة العامة المعلنة التي لها صفة العموم والشيوع هي ما جاء عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بعد ذلك قد تقع المخالفة في وقائع الأعيان على الشرط المقدم.
أما إذا كان الحكم العام والشريعة العامة والأصل الذي يرجع إليه مخالفاً لما جاء عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في كثير أو قليل، كان ذلك ابتغاءً لحكم الجاهلية، واستبدالاً لحكم البشر بحكم الله العلي الكبير رب العالمين، وكان ذلك -أيضاً- الخروج والمروق من الدين.
والحقيقة التي لا يمتري فيها عاقل يعي ما حوله من أمور، أن المخالفة التي يقع فيها كثير من حكام المسلمين هي من هذا النوع الأخير؛ حيث عمدوا إلى أحكام وتشريعات مناقضة ومخالفة لما جاء عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلوها التشريع العام والأصل الذي يُرجع إليه ويُتحاكم إليه. ولا ينقصنا الدليل ولا البينة على هذه الدعوى، فهذه مدونات دساتيرهم وقوانينهم التي كتبوها بأيديهم أو أقروها وقبلوها ممن كتبها واخترعها والتي يرجعون إليها، ويتحاكمون إليها، وهي طافحة بما يناقض أحكام الله ورسوله في كل المجالات السياسية، والاقتصادية، والقانونية، والأخلاقية، والمعاملات، وما شابه ذلك. وهذا الشرط الأخير -كما ذكرنا- مما غفل عنه كثير من المعاصرين الذي تكلموا في هذه القضية، ونحن إذا رجعنا إلى رواية الإمام مسلم في واقعة اليهودي الزاني التي تقدم ذكرها والتي ذُكر أن الآيات نزلت فيها يتبين لنا هذا الأمر واضحاً جليّاً. فاليهود -عليهم لعنة الله- لما خالفوا حكم الله، خالفوه في أول أمرهم في وقائع معينة وفي قضايا مخصوصة في حين كان التشريع العام المعلن عندهم هو تشريع الله وحكمه، ومن ثَمَّ لم تكن المخالفة حينئذٍ تمثل تشريعاً عامّاً، ولا أصلاً يُرجع إليه، ثم إنهم بعد فترة من الزمن لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، عمدوا إلى الحكم المخالف الذي كان يشكل انحرافاً في التطبيق في بعض الوقائع المعينة أو الحالات المخصوصة فجعلوه الشرع العام المعلن والأصل الذي يُرجع إليه، أي: أصبح بديلاً عن حكم الله يقضي به في كل واقعة، فنزل فيهم من الآيات ما نزل على ما تبين من رواية مسلم السابقة (8) . من هذا الحديث الصحيح تتبين لنا الحقائق التالية: أن حد الزاني الذي أنزله الله في التوراة هو الرجم، وأن اليهود بعد التزامهم بهذا النص الشرعي فترة من الزمن، بدؤوا ينحرفون عنه، وأن هذا الانحراف كان في أول الأمر جزئيّاً. وتتمثل جزئية هذا الانحراف في ناحيتين: الأولى: أن هذا الانحراف كان فيما يتعلق بالقضاء أو التنفيذ، وليس فيما يتعلق بالتشريع. الثانية: أن هذا الانحراف كان في وقائع معينة مخصوصة بكون الفاعل من أشراف القوم وأكابرهم ولم يكن يشمل جمع الوقائع، وأنه كان يتمثل في عدم إقامة الحد عليه. وهذا النوع من الانحراف -إذا كان فاعله مقرّاً بخطئه وإثمه- يكون من نوع الظلم والفسق، والذي يُقال في حق فاعله: «كفر دون كفر». لكن هل ظلَّ اليهود على الانحراف الجزئي؟! الحديث يخبرنا أن اليهود خطوا خطوة أكبر في مجال الانحراف، حيث إنهم قالوا: «تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم». ولقد كان هذا انحرافاً كليّاً شاملاً عن حكم الله العلي الكبير، ويتمثل هذا الانحراف الكلي -أيضاً- في ناحيتين: الأولى: أن هذا الانحراف أصبح متعلقاً بالتشريع، وليس بالقضاء أو التنفيذ، ومعنى ذلك أنه أصبح هناك تشريع بديل عما شرعه الله -تعالى- في هذا الأمر، وهو ما عبروا عنه بقولهم: «فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم»، فالله -تبارك وتعالى- شرع شرعاً عامّاً متمثلاً في رجم الزاني، وهم قد شرعوا شرعاً عامّاً أيضاً -مناقضاً لما شرعه الله-متمثلاً في تحميم الزاني وجلده. الثانية: وهو نتيجة متمشية مع الأولى -أيضاً- وهو أن هذا الانحراف أصبح عامّاً شاملاً ليس مخصوصاً بوقائع معينة، وهو ما يظهر من قولهم: «فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع». فبماذا حكم الله عليهم عندما فعلوا ذلك؟! يقول الحديث إن اليهود قالوا: «ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )» [المائدة: 44] إلى آخر الحديث. فعند هذا الحد من الانحراف وصمهم القرآن الكريم بالكفر والظلم والفسق. وهذا الذي أثبتته السنة النبوية، قد ثبت -أيضاً- في القرآن الكريم، وذلك حينما تحدث القرآن عن انحراف أهل الكتاب في الحكم في صورته النهائية، حيث أصبحت الكلمة العليا والتقديم للشرع المبدّل على الشرع المنزل، وبيَّن أن الذين قبلوا ذلك قد أشركوا بالله، واتخذوا من دون الله أرباباً، وذلك في قوله -تعالى-: (تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]. وبهذا يتبين لنا أن النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية قد دلَّت على هذا الشرط الأخير ووضَّحته وبيَّنته. * تنبيه: ذكرتُ فيما سبق أن العلماء المتقدمين أغفلوا التنصيص على هذا الشرط الثالث، وأوردت سبب ذلك فيما رأيت، ولكني ذكرتُ -أيضاً- أن هذا الشرط مبثوث في ثنايا أقوالهم، وها نحن أولاء ننقل بعض أقوالهم التي تدل على ذلك: 1- في الحوار الدائر بين أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي ومجموعة الخوارج من الإباضية، الذي يكفِّرون الحكام في زمانهم، والذي سبق أن نقلناه بتمامه؛ جاء ما يلي: قال الخوارج: يا أبا مجلز أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ أجاب أبو مجلز: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. بهذه الكلمات القليلة وضَّح أبو مجلز -رحمه الله- هذه القضية وبيَّن أن الشرع العام المعلن الذي يرجع إليه الحكام هو شريعة الله، وأن المخالفات التي تحدث إنما هي في وقائع الأعيان، فالحكام لم يشرعوا -في زمنه- شرعاً عامَّاً أو حكماً كليّاً يناقضون به حكم الله، ويجعلون الاحتكام إليه، وإنما الشرع العام والحكم الكلي هو حكم الله، ولهذا احتج عليهم أبو مجلز بذلك، وبين لهم أن الحكام المراد تكفيرهم لم يشرعوا شريعة عامة مناقضة لحكم الله حتى يمكن تكفيرهم بذلك، وإنما الشرع العام المعلن هو شريعة الله، ولذلك قال عن موقف حكام زمانه من الحكم بما أنزل الله: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون.
2- وكذلك نبَّه إلى ذلك الحافظ ابن كثير في كلامه الذي ذكرناه سابقاً عندما تحدث عن حكم الجاهلية، ومثَّل له بـ (الياسق) وهو القانون الوضعي الذي وضعه جنكيز خان، حيث بيّن -رحمه الله- أن (الياسق) عبارة عن كتاب كتبت فيه -على سبيل التشريع العام المعلن- أحكام مناقضة لحكم الله ورسوله، ولذا فإن هذه الأحكام المدونة: «صارت في بنيه -أولاد جنكيز خان- شرعاً متَّبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - »، أي: أصبح التشريع العام الذي يرجع إليه ويتحاكم إليه هو التشريع المناقض لحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أي: لم تصبح المخالفة في وقائع معينة مخصوصة، وإنما صارت المخالفة لحكم الله هي الأصل المتبع، فماذا قال عنهم ابن كثير بعد ذلك قال: «فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحكم سواه في قليل أو كثير».
فهذه النقولات وأمثالها تدل على عمل العلماء وقولهم بهذا الشرط، وإن لم ينصوا عليه صراحة. ولكننا إذا جئنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فإننا نجده قد عبر عن هذا الأمر بعبارات صريحة فيما نقلناه عنه في الأوراق السابقة، وبيَّن أن الأحكام الكلية العامة لا يحكم فيها إلا رب العالمين، إله الأولين والآخرين. هذا ولعلي أكون قد أطلت النفس في الحديث عن الشرط الثالث شيئاً ما، ولكن لي في ذلك العذر، وهو متمثل في أمرين: الأول: أن جمهرة كبيرة ممن تكلمت في هذا الموضوع أغفلت التنصيص -للأسباب التي أسلفتها- على هذا الشرط، وذكره وضرب الأمثلة له لتوضيحه. الثاني: أن الواقع الذي نعيشه في بلاد المسلمين، تقع المخالفة فيه في هذا الشرط -أعني: الشرط الثالث- بصورة واضحة لا يستطيع أحد من المغيرين المبدلين أو غيرهم إنكارها، كما أن الأدلة على وجود هذه المخالفة لا يستطيع أحد منهم التملُّص منها (9) . وذلك على العكس من الشرطين السابقين، فإنه يمكن لمنافق من هؤلاء الحكام إذا ضاق عليه الأمر، وخشي على حكمه ونظامه ورئاسته وملكه وسلطانه من الانهيار والضياع أن يصرح بهما استدامة لحكمه وسلطانه.
وفي ختام هذا الفصل نذكر بأن هذه الشروط الثلاثة التي ذكرناها وبيَّنَّاها إذا تحققت كلها مجتمعة في حاكم حكم بغير ما أنزل الله، فإنه لا يحكم عليه بالردة والخروج من الملّة، وإن كان عمله هذا من كبائر الذنوب. أما إذا اختل شرط واحد من هذه الشروط؛ كأن يحكم الحاكم أو القاضي في واقعة عين بحكم يخالف به حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا يقرّ بخطئه ولا يعترف بإثمه، أو يحكم في القضايا العامة فيشرع تشريعاً مخالفاً لما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى وإن اعترف بخطئه وإثمه؛ فإنه في كل هذه الحالات يصير الحاكم -والعياذ بالله- كافراً مرتدّاً عن دين الإسلام. وكيف يمكن أن يكون مسلماً من يجعل نفسه ندّاً لله -تبارك وتعالى- فيشرع أحكاماً مناقضة لأحكام الله ويقدِّمها عليها؟! أو كيف يكون مسلماً من يحكم في قضية معينة مخصوصة بغير ما أنزل الله وهو يعلم، ثم يزعم أنه غير مخطئ أو آثم؟! ونحن إذا عرضنا أحوال الحكام وواقعهم على هذه الضوابط والشروط فسوف يتبين لنا مَنْ مِنْ حكام بلاد المسلمين مسلمون، ومن منهم مرتدون؟! * تنبيه آخر: بعدما كتبت ما سبق عن الشرط الثالث من وجوب أن يكون الحكم المخالف حكماً في وقائع الأعيان، وليس في الأمور الكلية العامة، أوقفني أحد الإخوة الأفاضل على كلام للشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في هذا الموضوع، فأحببت نقله وإطلاع الناس عليه؛ لما فيه من تنصيص على هذا الشرط من أحد العلماء المعاصرين، وكذلك نقلت منه فقرات أخرى في غير موضع من هذه الرسالة. يقسِّم الشيخ الحكم بغير ما أنزل الله إلى قسمين: القسم الأول وهو: أن من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً له، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ويبين الشيخ -كما نقلنا عنه سابقاً- أن من هؤلاء الكافرين كفراً مخرجاً عن الملة من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية، لتكون منهاجاً يسير الناس عليه. ثم يبيِّن الشيخ القسم الثاني وهو: أن من لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق، وإنما حكم بغيره تسلُّطاً على المحكوم عليه، ونحو ذلك، أو محاباة للمحكوم له ونحو ذلك فهو ظالم أو فاسق. وهنا يأتي السؤال الذي يتعلق بذاك الشرط الثالث الذي تحدثت عنه، ويُلقي السائل على الشيخ سؤاله قائلاً: هل هناك فرق بين المسألة المعينة التي يحكم فيه القاضي بغير ما أنزل الله، وبين المسائل التي تُعدّ تشريعاً عامّاً؟ ويجيب الشيخ قائلاً: نعم هناك فرق؛ فإن المسائل التي تُعدّ تشريعاً عامّاً لا يتأتى فيها التفسير السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط؛ لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف تشريع الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام، وأنفع للعباد، كما سبقت الإشارة إليه. ثم يقول الشيخ: والحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله -تعالى- بحيث يكون عالماً بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله أو أنه مساوٍ لحكم الله أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز، فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه. فمثل هذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ لأن فاعله لم يرضَ بالله ربّاً، ولا بمحمد رسولاً، ولا بالإسلام ديناً... ولا ينفعه صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج؛ لأن الكافر ببعضٍ كافر به كله. الثاني: أن يستبدل بحكم الله -تعالى- حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه، فله ثلاث حالات: الأولى: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله -تعالى- معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد، أو أنه مساوٍ له، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز، فهذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ لما سبق في القسم الأول. الثانية: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله معتقداً أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر. الثالثة: أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه، فهذا فاسق، وليس بكافر... (10) .
ومن خلال هذا النقل المطول يتبين كيف وضَّح الشيخ الفرق بين الحكم في قضية معينة، وبين التشريع العام، وكيف أن اعتراف الحاكم بخطئه وإثمه في مخالفة الحكم الشرعي إنما يمنع عنه التكفير المخرج من الملة إذا كانت المخالفة في وقائع الأعيان، وليس في التشريع المخالف لشرع الله تعالى. ولعل هذه المسألة بعدما نقلنا كلام الشيخ فيها لا تحتاج إلى مزيد بيان. لكن يبقى هنا سؤال: فلو قال المشرع قانوناً عاما يخالف به أحكام الله, ويجعل التحاكم إليه: أنا أعتقد أن حكم الله -تعالى- هو الأولى والأنفع للبلاد والعباد، وأن التحاكم إلى القانون المخالف غير جائز هل يُقبل قوله هذا؟! وهل يزال عنه حكم الكفر لقوله ذاك؟!
والجواب الذي لا جواب غيره: لا؛ فإن قوله هذا غير مقبول وأن الحكم بالكفر لا يزال عنه لمجرد قوله ذاك. ولجوابنا هذا ثلاثة أوجه:الوجه الأول: أن فعل المرء للكفر، واعترافه واعتقاده أن ما أتاه كفراً، وأنه لا يصح ولا يجوز مع إقامته عليه، لا يزيل حكم الكفر عنه؛ لأن مثل هذا الاعتراف لا يمثل توبة شرعية، إذ لا بد للتوبة الشرعية المقبولة في مثل هذه الحال أن يظهر الندم على ما فعل، وأن يقلع عنه فوراً؛ فيتبرَّأ من تشريعه المخالف لشرع الله، ويبطله ويزيله، ويرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يقدم سواه في كثير أو قليل. ومن باب توضيح الواضح نقول: لقد تبين بالنصوص الشرعية الصحيحة، وكلام العلماء الأجلاء؛ أن تشريع ما يناقض الأحكام الشرعية الثابتة، وجعله حكماً عامّاً يُقضى به ويُحتكم إليه هو كفر بواح، واتخاذ آلهة مع الله وأرباب من دون الله، وحينئذ نقول: لو أن إنساناً اتخذ إلهاً مع الله، أو اتخذ ربّاً من دون الله، ثم قال: أنا أعتقد أن هذا الذي فعلته كفر وشرك وأنه لا يجوز لي ولا لغيري فعل ذلك، ثم هو في الوقت نفسه مقيم على اتخاذ إله مع الله، ورب من دون الله، فهل ينفعه قوله السابق: «أنا أعتقد...» وهل يقبل منه؟! وهل لو سجد مسلم لصنم من الأصنام، وقال: أنا أعتقد أن هذا الفعل مني شرك بالله العظيم، ثم هو مقيم على هذا السجود للصنم؛ هل ينفعه قول ذلك؟! إن اعترافه -في هذه الصورة التي ذكرناها- بأنه يفعل الشرك والكفر وما لا يجوز له ولا لغيره؛ إنما يزيد موقفه قبحاً وسوءاً، إذ إنه يفعل ما يفعل عن علم ويأتي ما يأتي عن بيّنة، وهذا مما يجعل جرمه مغلظاً، وأشد قبحاً وسوءاً مما لو لم يصرح بذلك. وانتهاءً نقول: هل هناك فرق بين هذه الصور وبين الصورة التي نحن بصددها؟ الجواب: لا؛ لأن اتخاذ تشريع من عند البشر مناقضٍ لتشريع الله العلي الحكيم وجعله الشرع الذي يقضى به بين الناس ويُتحاكم إليه؛ هو في ظاهره وباطنه اتخاذ آلهة مع الله، واتخاذ أرباب من دون الله. الوجه الثاني: إن قوله: «أنا أعتقد أن ...» السابق، هو ادِّعاء كاذب، وأن حقيقة موقفه هو اعتقاد العكس، وإذا تبين بالأدلة الصحيحة كذب الاعتراف القولي، فلا يعول عليه ولا يُعتُّد به، إذ إنه من الممتنع أن يعدل إنسان عن منهاج إلى منهاج يخالفه طائعاً مختاراً غير مكره، قادراً غير عاجز عالماً غير جاهل، زاعماً أو قائلاً إنه لا يريد من ذلك لأمته وشعبه إلا العلو والرفاهية والعيش الحميد. ثم يقول: أنا أعترف أن ما عدلت عنه هو الأفضل والأنفع من الذي عدلت إليه وأني متعرض بهذا العدول لسخط الله وعقابه لأني خالفت شرعه، هذا من المحال، بل هو كاذب في ادِّعائه ذلك، وإنما دفعه إليه الرغبة في أن ينطلي أمره على عامة الناس، وأن لا يفطنوا لحقيقة معتقده. الوجه الثالث: هبْ أن قوله: «أنا أعتقد أن ...» هو فيه صادق، فما الذي يمنعه إذن من البراءة من التشريع المخالف لشرع الله وإبطاله وإزالته والرجوع إلى شرع الله؟! قد يقول قائل: لأنه يستطيع تحقيق رغباته وشهواته ونزواته في وجود هذا التشريع البشري، ولا يستطيع ذلك في ظل وجود حكم الله، ونقول: متى كان تحقيق الرغبات والشهوات والنزوات عذراً في الإقدام على الكفر البواح. وقد يقول قائل: إن الدول الكبرى الكافرة لن تتركه يعمل بالتشريع الإسلامي، وسوف تدبِّر ضده انقلاباً أو ما شابهه لتطيح به وتخرجه من الحكم إن فعل ذلك، ونقول: ومتى كان الحرص على المنصب والاحتفاظ بالكرسي عذراً في قبول الكفر والعمل به؟! ثم نقول: إن فقدان الحاكم لمنصبه ليس من الإكراه بسبيل حتى يُقال: إنه مكره على ذلك، ولكنه الحرص على زخرف الحياة الدنيا وزينتها. ثم من كان صادقاً في قوله راغباً في الشريعة، فإنه لا بد أن يظهر لذلك أثر في واقع الحياة فينتهز كل فرصة تسنح وكل مناسبة تلوح في إقرار شيء من حكم الشرع وتثبيته، لكن الواقع المشاهد الذي لا يُنكر ولا يُجحد في حياة الحاكمين بالقوانين الوضعية أنهم ينتهزون كل فرصة تسنح وكل مناسبة تلوح في إقرار الأحكام المناقضة لحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتثبيتها وتنحية كل دور للحكم الشرعي في واقع الناس وحياتهم، وهذا دليل على إرادة الحكم بالقوانين الوضعية، وعلى عدم إرادة الحكم بالشريعة الإسلامية، فالإنسان متى فعل شيئاً ما كان هذا من الأدلة على أنه قادر على فعل هذا الشيء ومريد له، والله -تبارك وتعالى- قد بيَّن في كتابه الكريم أن إرادة التحاكم إلى الطاغوت (القوانين الوضعية) ناقضة لدعوى الإيمان، ومكذبة لمدّعيها، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 60].
وبالجملة فإنه من عدل عن شرع الله -تبارك وتعالى- إلى القوانين الوضعية، فإنه لا يقبل منه اعتذار يعتذر به أو دعوى يدعيها إلا أن يعلن التوبة النصوح الظاهرة إلى الله -تبارك وتعالى- والتي يتبرأ فيها من القوانين الوضعية ويبطلها ويقدِّم شرع الله -تبارك وتعالى- على ما سواه. * الحكم ببعض ما أنزل الله لا يمنع من الحكم بكفرهم: قد يظن بعض الناس أن حكم الكفر على الحاكم لا يكون إلا بأن يترك الحاكم الحكم بكل ما جاء في الشريعة، فإذا حكم ببعض ما أنزل الله دلَّ ذلك على إيمانه. وهذا الفهم فهم مغلوط، وقد ردَّ القرآن على أصحابه بأوضح عبارة، عندما قال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85]. وعندما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 150-151].
فليس شرطاً أن يقع الترك أو التبديل أو التغيير في جميع الأحكام الشرعية حتى يستحق الفاعلون لذلك اسم الكفر، بل متى تم ترك حكم واحد من الأحكام التي شرعها الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتبديله وتغييره والاستعاضة عنه بما أحدثوه من الأحكام كان الكفر والعياذ بالله. وقد وصف ابن كثير الياسق (القانون الذي وضعه جنكيزخان) -فيما نقلناه عنه سابقاً- وكان فيما ذكر: أنه يحتوي على مجموعة من الأحكام، وبعض هذه الأحكام مأخوذة من الملة الإسلامية، ومع ذلك فإن وجود هذه الأحكام الإسلامية في الياسق، لم تمنع الحافظ ابن كثير في حكمه على من اتبع هذا الياسق وحكم به، بأنه كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحكم سواه في قليل أو كثير. * شرك الطاعة أو الانقياد أو التشريع: عندما يكفر الحاكم أو القادة ويرتدّون عن الدين ويشرّعون أحكاماً ويُقيمون أوضاعاً يُناقضون بها شرع الله المحكم، فإنهم يُريدون ويَطلبون من شعوبهم وأتباعهم أن يُتابعوهم ويَقبلوا منهم ما جاؤوا به، وهنا يفترق الناس إلى طوائف: 1- فمنهم من يرفض كل ما يخالف شرع الله، ويأبى أن يتابع المغيرين المبدلين، ويصبر منهم على الأذى الذي يناله في أهله وماله ونفسه. 2- ومنهم من لا يكتفي بمجرد الرفض حتى يجمع إلى القول العمل فيدعو ويجاهد ويبذل النفس في سبيل نصرة الحق وأهله، والتمكين لشرع الله في الأرض. 3- ومنهم -وهم شر الناس- من يقبل ما جاء به المبدلون المغيرون، فيقبلون منهم ويتابعونهم ويناصرونهم، فما أحلّه المبدلون استحلّوه، وما حرّمه المبدلون حرّموه، وهؤلاء هم المشركون بالله في الطاعة أو الانقياد أو التشريع، وإن صاموا وصلّوا وزعموا أنهم مسلمون. وهو من الشرك الأكبر والعياذ بالله، وقد جاءت النصوص الشرعية ببيان أن قبول التشريع المناقض لشرع الله هو شرك بالله العظيم، فمن ذلك قوله -تعالى-: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 121]. ورد في تفسير هذه الآية أن أولياء الشيطان جادلوا المسلمين في حِلّ الميتة. وقالوا لهم منكرين عليهم: ما ذبحتم بأنفسكم فهو حلال، وذبيحة الله (يعني: الميتة) تحرمونها؟! فقال الله -تعالى- لهم: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 121]. فلو أطاعهم المسلمون في تحليل ما حرمه الله، صاروا بذلك مشركين. ومن ذلك قوله -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]. وقد جاء تفسيرها في حديث عدي ابن حاتم -رضي الله عنه- الآتي ذكره، وفيه أنهم اتبعوهم في التشريع المخالف لشرع الله، فحكم الله عليهم بالشرك. وهاتان الآيتان كثيراً ما يقرن بينهما المفسرون، فعندما يفسر المفسر إحداهما يتعرض لتفسير الأخرى لدلالتهما على معنى واحد. يقول ابن كثير في تفسير قوله -تعالى-: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ): «أي: حيث عدلتم من أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدّمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي ابن حاتم -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم! فقال: بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» (11) .
وقد سبق أن نقلنا عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قوله: «ويفهم من هذه الآيات كقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26] أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله». إلى أن قال: «وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه، مخالفة لما شرعه الله -جل وعلا- على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم؛ أنه لا شك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم» وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: سؤال: ما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر من حيث التعريف والأحكام؟ الجواب: الشرك الأكبر: أن يجعل الإنسان لله ندَّاً؛ إما في أسمائه وصفاته... وإما أن يجعل له ندَّاً في العبادة... وإما أن يجعل لله ندَّاً في التشريع؛ بأن يتخذ مشرعاً له سوى الله، أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم، عبادةً وتقرباً وقضاء وفصلاً في الخصومات، أو يستحله وإن لم يره ديناً، وفي هذا يقول -تعالى- في اليهود والنصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]. وأمثال هذا من الآيات والأحاديث التي جاءت في الرضى بحكم سوى حكم الله أو الإعراض عن التحاكم إلى حكم الله والعدول [عنه] (12) , فهذه الأنواع الثلاثة هي الشرك الأكبر الذي يرتد به فاعله أو معتقده عن ملة الإسلام» (13) أعاذنا الله من ذلك. ومن صور الشرك الحديثة في الطاعة أو الانقياد أو التشريع التي قد لا يفطن لها كثير من الناس؛ ما يسمى اليوم بـ «الديمقراطية» أو «النظام الديمقراطي» (14) . 4- ومنهم من لا زال اعتقاده صحيحاً في تشريع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فالحلال عنده ما أحله الشرع، والحرام عنده ما حرَّمه الشرع، ولكنه أطاع المبدلين المغيرين في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب والمعاصي ولا يكفرون بذلك (15) ، لكن هؤلاء يخشى عليهم مع طول الأمد.
ومن هنا يتبين لنا أن الحديث عن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول صنفين من الناس: 1- صنف الحاكمين أو المشرِّعين بغير ما أنزل الله. 2- صنف القابلين أو المتابعين للحكم المناقض أو التشريع المبدل، وهذا يعني أنه يجب على الرعية رفض ما شرعه المشرعون مناقضاً لأحكام الشرع وإنكاره، وعدم قبوله، أو الاستكانة والرضوخ له، كلٌّ حسب طاقته أو استطاعته، وذلك لأن قبول الأحكام ا | |
| | | نورسين عضو ذهبي
الجنس : عدد المساهمات : 315 نقاط : 471
| موضوع: رد: إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف السبت أغسطس 27, 2011 5:12 am | |
| [size=25]فصل في بيان الردِّ على وسائل الحكام وأعوانهم في الترويج للحكم بغير ما أنزل الله للحكام المبدلين المغيرين وأعوانهم وسائل متعددة في ذلك، وكنت عزمت على الإشارة إلى بعض هذه الوسائل والرد عليها على سبيل الاختصار، لكني عدلت عن ذلك، ورأيت أنه من غير الدخول في تفصيلات الرد على هذه الشبه أو الوسائل -لأن هذه الوسائل أو الشبه متعددة ومختلفة باختلاف الأزمان والأماكن، وأهواء قائليها -يمكننا أن نعطي ضابطاً صحيحاً يصلح للرد على جميع الشبه أو الوسائل التي قيلت أو التي يمكن أن يزينها الشيطان مستقبلاً في نفوس متبعيه، وهذا الضابط يتمثل في أنه قد ثبت بالأدلة القطعية سنداً ومعنى، وجوب الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في كل مكان وكل زمان، وعلى كل أحد في الصغير والكبير من الأمور، وأن الأدلة الشريعة الصحيحة يصدق بعضها البعض، ويعضد بعضها البعض، ولا يمكن أن تتناقض، ومن هنا فإنه من المحال أن تكون هناك قاعدة شرعية صحيحة أو دليل شرعي صحيح يؤدي إلى أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، ويبيح الحكم بغير ما أنزل الله، ويكفي هذا الضابط للدفع في صدر كل شبهة يوردها مورد ضال مرتاب أو منافق عليم اللسان (1) . __________ (1) في عرض بعض الوسائل أو الشبه والرد عليها يمكن قراءة بعض الكتب مثل: حول تطبيق الشريعة للشيخ محمد قطب، الإسلام والعَلمانية للدكتور يوسف القرضاوي، تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية للدكتور صلاح الصاوي. ----------------------------------------------------------------------------------------------- فصل في بيان أسباب رواج ذلك عند بعض المسلمين وقد ساعد على رواج هذه الشبه والوسائل عند بعض المسلمين أو انطلائها عليهم عدة عوامل أو أسباب، نذكر منها: 1- الجهل الذي يخيم على كثير من المسلمين حتى لا يعرفون من دينهم إلا النذر اليسير، وياليته كان صافياً بل هو مخلوط بكثير من الخرافات والأساطير، والأقوال الباطلة، والأحاديث الموضوعة. 2- الركون إلى الدنيا والاغترار بها، والعمل على جمعها، واستنفاد الوقت كله في ذلك. 3- رواسب من فكر الإرجاء الذي يفصل العمل عن الإيمان. 4- وجود طائفة من علماء السوء التي وظفت علمها لخدمة المبدلين المغيرين لقاء دراهم معدودة أو مناصب زائلة. 5- تقاعس بعض العلماء والدعاة عن القيام بواجبهم الشرعي في هذا الشأن. 6- اهتمام بعض العلماء والدعاة بالحديث أو الكلام عن الأمور التي لا يترتب عليها تحمل تبعات أو أعباء أو جهاد. 7- الغزو الفكري وظهور المذاهب الفكرية المناقضة لدين الله تعالى من عَلمانية، وديمقراطية، وقومية، واشتراكية، وغير ذلك. 8- سيطرة كثير من المرتدين أو المنافقين على مقاليد الحكم في بلاد المسلمين. 9- سيطرة كثير من العلمانيين وأضرابهم على وسائل الإعلام، وتوجيهها، وافتعال حالة من التناقض بين الدين وبين مصالح الناس وحاجات العصر. 10- محاربة أصحاب الحكم والسلطان لمن يتكلم في هذه الأمور، وإلصاق التهم بهم، ونعتهم بالأوصاف الذميمة تنفيراً للناس عنهم، وسجنهم، وتعذيبهم، وتعليقهم على أعواد المشانق. ---------------------------------------------------------------------------------------- الخاتمة وإذ نأتي إلى خاتمة كل رسالة نقرؤها، فإنه ينبغي علينا أن تكون لدينا القدرة على تقديم جواب عملي نافع ومفيد لسؤال يفرض نفسه دائماً: ما هو واجبنا؟ وماذا نفعل الآن في هذا الموضوع المعروض؟ وأبادر فأقول: إني لا أتصور، ولا يمكنني أن أقدم هنا قائمة متكاملة بكل ما يجب علينا قوله أو فعله في وقتنا الحاضر، ولكنها كلمات أقولها وجمل أسردها على حسب ما ييسره الله -تبارك وتعالى- راجياً من الله العلي الكبير أن ينفعني بها والمسلمين، وأن يجعلها عوناً لتحقيق ما نرجوه من سيادة الشرع الإسلامي والتمكين له في الأرض، حتى يكون الدين كله لله.
1- فمن أهم ما يجب علينا فعله -ونحن بصدد موضوع هذه الرسالة- أن نزيل الجهل الذي غشي عقولنا وقلوبنا، وذلك عن طريق تحصيل العلم: قراءة وسماعاً، وسؤالاً لأهل الذكر. وإذا كان من الواجب على الدعاة أهل العلم أن يبادروا إلى تبصير الناس وتعليمهم وتفقيههم، فإنه لا ينبغي لنا أن نجلس أو نقعد حتى يأتوا إلينا ويعلمونا، فهذا واجبهم! وهم عنه مسؤولون، أما واجبنا نحن فهو الجِدُّ في طلب العلم الصحيح وتعلُّمه، وأن نعطيه من أوقاتنا، وأن ننفق عليه من أموالنا. وفي إطار تعلُّم العلم وتعليمه فإنه ينبغي علينا أن نطلب العلم من العلماء العاملين الجادين الذين يظهر منهم صلاح الحال مع بذل الجهد لإعلاء كلمة الله ، وتحمل التبعات والمشاق في سبيل ذلك، لا أن نذهب إلى القاعدين المتخلفين عن نصرة الحق والصدع به، أو السائرين في ركب المبدلين المغيرين، أو الذين لا يفقهون هذه القضايا وليس لهم بها كبيرُ علمٍ أو اهتمام أو عناية، ونحاول أن نتعلم منهم في هذه الأمور أو نسألهم عن فقهها ونستفسر منهم، وكيف يتأتى العلم الصحيح بهذا الطريق وعلى أكتاف أمثال هؤلاء وفتاواهم يستند حكم الطاغوت! ومن هنا فإنه ينبغي أن تكون لنا وقفات نستطيع من خلالها أن نميز العلماء العاملين الباذلين في سبيل إعلاء كلمة الله، من العلماء الخاذلين المخذلين أو الضالين المضلين، أو الذين حصروا أنفسهم في باب أو عدة أبواب من الفقه لا يتعدونها إلى غيرها من الأبواب التي تعالج واقع المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم. 2- ومما يجب علينا ـ أيضاً ـ في هذا الصدد تحديد جهة الولاء تحديداً دقيقاً وصحيحاً، بحيث يكون ولاؤنا لله ولرسوله وللمؤمنين الراضين بشريعته، العاملين بها ولها، وبراؤنا ممن يُحاربون الله ورسوله والمؤمنين، من الذين أعرضوا عن شريعة الله عن التحاكم إليها والحكم بها. فلا يكون الولاء والبراء -بأي حال من الأحوال- قائماً على أي أساس من الأسس الجاهلية: كالقومية، أو الوطنية، أو العنصرية، أو الحزبية أو المذهبية أو الحالة الاجتماعية، أو الجنس أو اللغة، أو اللون، أو ما شابه ذلك مما يبنى عليه الولاء والبراء عند الجاهليين. ومن هذا التحديد الصحيح فلا بد لنا من الوقوف والانحياز إلى جانب الدعوة الحقيقة المتمسكة بميراث النبوة، والممثلة في اتباع منهج أهل السنة والجماعة، الداعية إلى تحكيم شرع الله، والعاملة في سبيل تحقيق ذلك، لا بد من الوقوف إلى جانب أصحاب هذه الدعوة وتأييدهم، ومناصرتهم وإعانتهم، والدعاء لهم، والنصح لهم، وخلافة من يؤذى منهم بسبب قيامه بالحق ودفاعه عنه في أهله بخير، فإنهم مجاهدون في سبيل الله، وخلافة المجاهد في أهله بخير من أفضل القربات. 3- العمل على أن تكون شريعة الله هي الحاكمة، واستخدام كل السبل المشروعة في ذلك، مثل: تبصير الناس وتوعيتهم بهذه القضية، وبما يترتب عليها، ومطالبة الحكام طلباً حثيثاً بالرجوع إلى شرع الله، وتحكيمه في الكبير من الأمور والصغير، وسحب التأييد عمن لا يستجيب منهم لذلك، وتعرية نظامه وبيان سقوط شرعيته، ومن ثمَّ بطلانه، وبيان كل ما يترتب على ذلك من أحكام وتصرفات. 4- ومما يجب على المسلمين في هذا الصدد أن يتركوا ويجتنبوا التحاكم إلى هذه الأنظمة الوضعية المحادة لله ورسوله المناقضة لشرع الله، وأن يلجؤوا في كل أمر من الأمور التي يحتاجون فيها إلى التحكيم، أن يلجؤوا في ذلك إلى من يُرتضى علمه ودينه ويطلبون منه أن يحكم بينهم في القضية المعروضة بشرع الله -تبارك وتعالى- فإذا قضى بينهم وحكم فعليهم الاستجابة والتنفيذ، وبذلك ينجو المسلمون من التحاكم إلى الطاغوت (القانون الوضعي).
5- إشاعة روح الجهاد في نفوس المسلمين، وترغيبهم في البذل والفداء، وإشاعة الاعتزاز بهذا الدين، وبيان أنه لا عزَّ لنا، ولا سعادة، ولا مجدَ، ولا سؤدد إلا بتحكيم شريعة الله وتقديم كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل كلام، وبيان أن كل ما مرت به الأمة الإسلامية أو تمر به الآن من ضعف وذلة ومهانة وهوان على أعداء الله ورسوله حتى أذلها عباد البقر، وعباد الصليب، واليهود وأضرابهم! إنما وُجد ذلك بسبب الإعراض عن شريعة الله، وترك الحكم بما أنزل الله، والاستعاضة عن الوحي الكريم المنزل على سيد الأولين والآخرين، بما زيَّنه الشيطان وأعوانه من أحكام الكافرين ونُظم الجاهلين. 6- ومما ينبغي على العلماء والدعاة ترك الاستجابة لرغبات الناس في الحديث عن بعض الأمور الفرعية أو النظرية بأكثر مما تحتاج إليه هذه الأمور، والانتقالُ بالناس من هذه المرحلة إلى مرحلة التركيز على القضايا المهمة الواقعة التي يحتاج إليها الناس فعلاً -وإن كانوا لا يدركون ذلك (1) - والتي يترتب على جهلها أو الغلط فيها انطماس جزء من معالم الإسلام في نفوس المسلمين، مع عدم الإخلال بمبدأ تكامل الدعوة، وعدم تجزيئها وإهمال جزء من الإسلام لصالح جزء آخر. لكن لا بد من التوازن في عرض كل القضايا وإعطاء كل أمر أو نهي أو إرشاد أو تشريع ما يحتاجه من الأهمية، بحيث لا يُتجاوز به قدره، ولا يُنزل به عن رتبته. وهذا هو مسلك أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان. ولأضرب بفتنة «خلق القرآن» مثلاً لما أريد توضيحه. فالقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، يمثل العقيدة الصحيحة في هذا الموضوع، لكن من تكلم من الصحابة بذلك؟! إنك لو ذهبت تعدد الناطقين من الصحابة بهذا اللفظ أو بما يفيده معناه لم يتجاوز بك العدّ عدد أصابع اليد الواحدة، لكن عندما أطلَّت البدع برأسها، وحدثت الفتنة وخاض الناس في ذلك، كم من العلماء تحدثوا في هذه القضية؟! العدُّ قد لا يحصرهم، فكل علماء أهل السنة تكلموا في تلك القضية وبيّنوها، وأقاموا الأدلة الصحيحة على القول الصواب وبطلان القول المخالف، ولا تكاد تجد كتاباً مصنفاً -بعد ذلك- في العقيدة إلا وتعرض لهذه القضية وبيَّنها ووضَّحها. فما الذي حدث أو ما الذي تغيَّر؟
ولي هنا ملاحظة أودّ تسجيلها قبل المضيّ في حديثنا قدماً، وهي أن العلم الصحيح بهذه القضية كان موجوداً زمن الصحابة -رضي الله عنهم- وأنهم لم يكونوا يجهلون هذا الأمر، وأنه لم تُنقل للتابعين ومن بعدهم أية نصوص شرعية لم يطلع عليها الصحابة، وكيف يتأتَّى ذلك وهم الناقلون للنصوص الشرعية، وعنهم أخذت؟! إذن فما الذي حدث؟! الذي حدث أن الحاجة إلى الكلام في هذه القضية قد تغيرت، ففي زمن الصحابة -رضي الله عنهم- لم تكن هناك حاجة إلى إكثار الكلام حول هذه القضية، إذ العلم بالصواب موجود عندهم، ولم يظهر بينهم من ينكر ذلك أو يخالفه حتى يحتاجوا إلى الرد عليه وتفنيد باطله. أما في زمن الفتنة، فقد ظهر القول الباطل وأُشربته قلوب، وأشاعه رجال، وانتصر له سلاطين، وخيف على الناس بسبب ذلك من فساد الاعتقاد، وهنا أصبحت الحاجة ماسة إلى إكثار الكلام في هذا الموضوع، وتبيينه، وتوضيح الحق، والرد على أهل الزيغ والضلال، وهنا نشط أهل السنة في الكلام بالحق وإقامة الأدلة على القول الصواب، وتزييف القول الباطل والعمل على دحضه، وما صدَّ أهلَ السنة عن هذا العمل العظيم ما لاقوه من كيد الكائدين، وظلم الحكام الجائرين، بل تحملوا وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله بفضله. وهذا هو المنهج السليم الذي ينبغي علينا ترسمه الآن، واقتفاء أثره، والتأدب بأدبه. لماذا تُعطى بعض القضايا الفقهية جهداً عظيماً -مما يصدر في كتب أو شرائط أو محاضرات أو دروس أو ندوات-هي ليست في حاجة إليه، بينما تترك أمور كبيرة هي في أمس الحاجة إلى كثرة الكلام عنها، وبيان وجه الحق فيها، والرد على شبهات المبطلين، مع تعدد أساليب البيان لتناسب طبقات الأمة كافة؟! هل هذا المنهج هو منهج سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة؟
إن من أكبر الفتن التي تتعرض لها الأمة الإسلامية -أمة نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، الرسول الأعظم، خليل الرحمن- أن يكون الشيطان الرجيم الملعون المطرود من رحمة الله هو قائدها، والحاكم فيها، والمشرِّع لها بما يشرعه على ألسنة أوليائه من المغيِّرين والمبدِّلين الذي اغتصبوا مقاليد الحكم في بلاد المسلمين. فهل يمكن في المنهج السليم -منهج أهل السنة والجماعة- أن نتناول هذه القضية الخطيرة كما نتناول مثلاً قضية فرعية من فروع العقيدة أو الفقه، خذ مثلاً لذلك: مسألة رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة الإسراء والمعراج، هل يمكن أن نتناولها بالطريقة نفسها التي نتناول بها قضية كون الشيطان الرجيم هو المشرع لأمة خير المرسلين، نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! فريق من إخواننا يولون مسألة الرؤية تلك وأمثالها من الاهتمام والذبِّ والمنافحة وإقامة الأدلة على القول الصحيح الذي يرجِّحونه ما لا يولونه لقضية تحكيم شريعة الشيطان في رقاب المسلمين وأمورهم، لكن هل يستقيم ذلك مع الفهم السليم للكتاب والسنة، أو مع اتباع المنهاج السليم الذي اتبعه سلفنا الصالح في معالجة مثل هذه القضايا؟! وهل هناك مسوغات صحيحة أو أعذار مقبولة تبيح إهمال مثل هذه القضايا الخطيرة والتركيز على قضايا ليست هي في حاجة إلى مثل هذا التركيز (2) .
7- ومن الأمور التي ينبغي الجدّ والاجتهاد فيها بيان سقوط شرعية الأنظمة الكافرة المرتدة التي رغبت عن شريعة الله وتحكيم كتابه، وسنة رسوله، إلى ما تواضعت عليه من نظم مناقضة لشرع الله سواء استجلبتها من دول الكفر أو استحدثتها من عند أنفسها، وبث ذلك بين الناس وتعليمهم إيَّاه، وإقامة الأدلة على صوابه. 8- ومما ينبغي الاهتمام به -أيضاً- والتركيز عليه أن يهتم كل منا بقلبه، وأن يجتهد في زيادة إيمانه بإذن ربه، وأن لا يشغلنا الاهتمام بأمر الناس عن الاهتمام بأمر أنفسنا، بل لا بد لكل منا أن يسعى سعياً حثيثاً في سبيل إصلاح نفسه وتهذيبها، وتكميل ما ينقصها من التقوى أو العبادات والأخلاق، ليكون المرء منا منضبطاً قولاً وعملاً، وليكون قادراً على مواصلة السير في طريق الحق بغير شك أو تردُّد. إن تقوى الله -تبارك وتعالى- في هذا الزمن الذي تكالب فيه علينا أعداؤنا من الداخل والخارج من كل حدب وصوب، وصدق التوجه إليه، والافتقار إليه، والذلة والخشوع بين يديه، والعمل على نصرة دينه، وبذل المهج والأموال في سبيل ذلك؛ من أهم العوامل التي تعيننا بإذن الله -تعالى- على تحقيق ما نصبو إليه من الخير والهداية، وحتى تعود راية الإسلام وتحكيم الشريعة الإسلامية عالية خفاقة على ربوع المسلمين. أسأل الله الحكيم العلي الكبير، أن يجعل ذلك قريباً بإذنه، وأن يجعلنا من جنده الذين يستعملهم لنصرة الحق والتمكين له في الأرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________ (1) جل اهتمام جمهور المسلمين منصبٌّ على القضايا الفرعية الجزئية أو النظرية، ويكفي أن يطالع الإنسان أو يستمع إلى الأسئلة والاستفتاءات المقدمة لأهل العلم حتى يدرك انحصار همة غالبية المسلمين في مثل هذه الجزئيات، ويدرك مدى الإهمال الذي لحق بقضايا كبرى، كان من الأَوْلى أن يكون شغل المسلمين الشاغل السؤال والاستفسار= =عنها، هذا إلى جانب السؤال والاستفسار عما يحتاجونه من القضايا الفرعية. (2) ومما نحب أن نؤكده هنا أنه لا يمكن أن يقوم في فهم سليم أننا نقلل من شأن أي شيء جاء به ديننا أو ندعو إلى إهماله، ولا نجيز لأحد أن يفهم ذلك؛ لأن هذا من التقوُّل علينا بغير حق، وكل ما نذكره ونؤكده إنما هو متعلق بتنزيل كل أمر من الأمور منزلته التي هو أحق بها. [/size] | |
| | | | إن الله هو الحكم "للشيخ محمد بن شاكر الشريف | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |