رائحة البحر وعبق التاريخ

الإسكندرية امرأة شابة تفرد شعرها الغجري وتغسله بأمواج البحر، وتفتح لك ذراعيها، تغازلك بابتسامة مرحة ، ولا تبخل عليك في عز حرارة الشمس بهوائها العليل تداعب به وجهك المتعب، لتظل رائحة البحر خلفك تناديك فتقع في غوايتها وتظل أسيرا لها.

عروس البحر الأبيض ألهمت الكثيرين الذين ذابوا فيها عشقا فتغنوا بها، لعل أشهرها "شط إسكندرية" التي أنشدتها فيروزة الغناء، وبالمدينة أماكن كثيرة شهيرة لها تاريخ يعرفه الكثيرون، ومنها سوق "زنقة الستات" الذي حرص موقع "لهنّ" على زيارته والتجول بين جنباته .

ما أن يتنامى إلى سمعك ذكر المنشية وزنقة الستات حتى تقفز إلى ذهنك قصة السفاحتان "ريا وسكينة" اللتان عاشتا في بدايات القرن الماضي وكان معظم نشاطهما الاجرامى يعتمد على اصطياد المتسوقات فى الزنقة وما يجاورها من احياء ، لكن التجول هناك يثيرك وكأنك رجعت بالزمن للوراء تشاهد السيدات بملاءتهن يخفين وجوههن باليشمك، وتحاول الأختان الإيقاع بهن لسرقتهن وقتلهن في النهاية.

في أوائل القرن الماضي كان تجار المغرب العربي وليبيا يتمركزون في حي المنشية بوسط الإسكندرية ، يبيعون فيه بضاعتهم التي يجلبونها من بلدانهم الأصلية، وهكذا أقيم السوق الذي عرف في البداية باسم "سوق المغاربة" وكانت تحيط به مجموعة من الأسواق القديمة ومنها سوق الصاغة وسوق الخيط الذي ما زال يبيع أجود أنواع الأقمشة ومستلزمات الحياكة وسوق الخراطين وسوق العطارين والتي تتداخل جميعا حتى الآن.

وعرف هذا السوق باسم "زنقة الستات" بسبب ضيق شوارعه وازدحامه الشديد، ولأن أغلب البضاعة المعروضة به تخص النساء، وهو عبارة عنحارات ضيقة ومحال متلاصقة، وتقصده النساء من كل المستويات.

وفي السابق كان يوجد في الزنقة مكان يسمى "البيت الأبيض" وكان مخصصا لحل المشاكل والخصومات بين التجار ويخرج منه المتخاصمون متحابين وكان رئيسه الحاج سيد راشد الذي ورّث تلك المهمة لابنه من بعده.

ويتردد على السوق عدد كبير من الفنانين بالإضافة إلى السائحين من مختلف الجنسيات وأكثرهم من الفرنسيين والايطاليين واليونانيين الذين يعود بعضهم لاسترجاع ذكرياتهم في المدينة التي عاشوا بها طويلا.

ويحيط بالزنقة عدد من المساجد الأثرية تجسد جمال وعظمة العمارة الإسلامية ويرجع تاريخها إلى 140 عاما ، وجميعها من المساجد المعلقة مثل الشوربجي وتربانة والخراطين.

أقدم دكاكين السوق هو دكان "عم أمين" الذي جاء ذكره ضمن أحداث مسرحية "ريا وسكينة" والذي ما زال قائما حتى اليوم، وهو أول محلات بيع العطور والزيوت في الإسكندرية، وتتردد عليه معظم سيدات مصر.

الحاج محمد مسعود أحد أقدم التجار في السوق يملك محلاً لبيع مستلزمات الستائر، يسرد تاريخ السوق قائلا انه بعد سنوات من وجود المغاربة في الإسكندرية، قاموا ببيع محالهم إلى عدد من التجار اليهود الذين استمر وجودهم في السوق حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

وكانوا يبيعون ملابس الحج ومستلزماته والسجاجيد اليدوية، وعاشوا فترة طويلة، وكان أشهرهم جاك ليفي وأمير كوهين، وعندما قرروا الهجرة باعوا المحال والشقق لعمالهم المصريين ومنذ ذلك الوقت أصبح كل أصحاب محلات السوق مصريين.

العمل بالسوق لم يعد يقتصر على الكبار فقط بل أصبح أكثر البائعين اليوم شبابا يافعين، ومنهم عمرو عبد الله الذي تخرج من الأكاديمية البحرية وعمل لمدة ثلاث أعوام على المراكب كمهندس ثان، لكنه قرر الاتجاه إلى الأعمال الحرة ليقوم باستيراد الإكسسوارات وبيعها في الزنقة.

يقول عمرو انه يستورد الإكسسوارات من الصين وتايلاند وغيرهما وأسس مكتبا له في الصين للشحن، وأصبح لشركته الآن أكثر من فرع بالصين والإسكندرية. ولذلك لا ينوي ترك عمله الحالي والعودة للعمل في البحار.

أما أخيه الأكبر محمد فقد اشتغل في السوق منذ أكثر من 20 عاما، في حين انضمت إليهم الأخت الصغرى "آية" التي لم تنه تعليمها الثانوي بعد، لكنها تحب العمل في السوق لأن معظم تعاملها مع بنات في نفس سنها وفكرها لذا تجد التعامل معهم سهلا.

وتختلف أسعار الإكسسوارات حسب نوعها كاجوال أو لوكس، حيث تبدأ الكاجوال من خمس جنيهات إلى 30 جنيها، أما اللوكس فتبدأ أسعاره من 50 إلى 200 جنيها.

تقول آية :" أحب جو الزنقة، وتعرفت على ناس كثيرة جدا وأنا لم أبدا سوى من أيام قليلة"، وفي النهاية تتمنى أن تؤسس لنفسها تجارة مستقلة بعيدا عن إخوتها ولكن بنفس السوق.

أما إيمان السيد فتعمل بمحل فرنشات بسوق الخياطين – وهو جزء من الزنقة- منذ ثلاثة أشهر فقط بعد أن كانت تعمل في الملابس لمدة ثلاثة أعوام. وتوضح أن البضاعة إما يدوية تصنع في طنطا أو مستوردة من الصين، لكن الأسعار

متقاربة بين النوعين.

يسرا نصير محامية شابة اعتادت الذهاب للزنقة لشراء احتياجاتها المتعددة حيث تنخفض أسعاره عن الأسواق الأخرى والمولات ، تقول ان أكثر ما يجذبها في السوق الإكسسوارات والإيشاربات، موضحة أن معظم زميلاتها في المهنة يقصدن هذا السوق تحديدا لأنه يقع في طريقهن بين محكمة الحقانية والمحكمة البحرية.

جولة واحدة في "زنقة الستات" حتما لا تكفي، لأنك لن تعرف إذا كنت قد وصلت إلى نهايته أم فات منك الكثير فهو مثل المتاهة لا تعرف بدايته من نهايته.

» رائحة الفجل تعالج الجيوب الأنفية
» مسلمات :راكبة البحر
» سجدة فى عمق البحر