لم نكن يوماً من المصدّرين للموز، ولعلنا لن نكون..، فالبلاد
العربية تكاد تكون بعيدة عن تحمّل مناخه ووجود تربته وعناء زرعه وحصاده،
ولكننا حتماً سنصدّر يوماً جمهورياته، وفي هذا اطمئنان لحالنا وثقة في
إنتاجنا وعوناً لميزان الصادرات لدينا...
جمهوريات الموز صفة حقيقية ملازمة
لبلاد أمريكا الوسطى والجنوبية حيث إنتاج الموز، غير أنها أخذت منحى
السخرية والاستهزاء في بعض زمانها؛ حيث هيمن الاستفراد بالحكم وتملك البلاد
وغياب القانون وصولات الأسر والجماعات. وقد ورث بعضنا من بني جلدتنا هذه
الصفة الحميدة، وجعلها يافطة ملكه، فغابت المؤسسة، وتعطلت المجالس، واستتبّ
الحكم لفرد وعائلة، وغلب التملّق والسقوط والغثيان، وأضحت الصورة حزينة
بائسة!
آخر وصفات جمهوريات الموز توريث
الحكم، حيث أصبحت السلطة ملكاً خاصاً يرثه الابن عن أبيه كما يرث أمواله
وعقاراته وضيعاته، أو الزوجة عن زوجها وكأنها ترث صالون الضيافة، وأصبحت
الجمهورية ملكية دون تاج وصولجان، ولكن بدرة عصا.
وخوفاً علينا من هول المفاجئة وشدتها
على صحتنا، فإن التوريث لا يقع مباشرة ودون "استئذان"، فهو ليس اختلاساً
لحقوق ودوساً لكرامات! ولكن كثيراً ما يلفّ التوريث هالة من التخفي المغشوش
والاستنكار الكاذب، يليه مباشرة تهيئة لطيفة ناعمة، من مثل "ابني يساعدني"
أو "زوجتي دائماً في الصورة بجانبي" ثم ينبري أحدهم، الأكثر جرأة وتملقاً،
ويبدأ بطرق الجرس معلناً بداية مسلسل خائب وممل لا ينتهي، مسلسل كله حلقة
واحدة وإن تعددت أرقامها، وهدفها واحد وإن تشابكت كذباً وبهتاناً، الثنايا
والشعاب...
ينطلق أحدهم إذن بذكر محاسن الأب
الحنون والقائد الفذّ والزوج الصالح، وأن الفذاذة والقوة وحسن القيادة
تنتقل مع الجينات أو مع "عفش البيت"، كما تنتقل الأمراض والفواجع، وأنه من
خيبة البلاد وخسارتها الفادحة ترك هذه المكاسب تصحب صاحبها إلى دار الفناء
ولا تواصل مشوارها معنا، فنخسر الدنيا والآخرة!
تتواصل "الجوقة" بترانيم باهتة، ويكثر
العازفون وأصحاب الطبول الكبيرة والصغيرة، ومن لم يقدر على حمل الدفّ أو
لا يمكنه ضربه، فتكفيه يداه وزيادة...
ويوضع الوطن على الرفوف العالية حتى
لا تصل الأيادي العابثة، أو يرمى به في الكهوف والدهاليز المظلمة؛ حيث لا
عين ترى، ولا أذن تسمع، ولا عقل يعي، ويتواصل المشوار حزيناً سخيفاً وراء
زجاج رمادي باطنه عذاب وظاهره عذاب، لا يُرى باطنه، ولا يحمل عنواناً غير
عنوان الاستخفاف والاستحمار والاستبلاه...
يغيب الوطن ويحمل معه مواطنته، ويتبعه
المواطن حاسراً حزيناً يبحث عن مكان له تحت الشمس فلا يجد غير الكهوف،
يبحث عن الماء فلا يجد غير الشقاء، يبحث عن دور فيُشار له بالبنان إلى
بناية تسمع لها من بعيد أزيز الأبواب الغليظة وأصوات المعذبين في الأرض،
وترى الناس سكارى يتمايلون، فمنهم من يدخلها ظلماً وعدواناً ومنهم من يقبل
ويمشي على بطنه زاحفاً نحو جنان خُيّلت إليه، حتى إذا وصلها وجد الذلّ
وخيبة المسعى! ومنهم من صار حذو الحائط يريد إقناع نفسه ومن تبعه بأنه يسير
على الثرى ليدرك الثريا، وقد نسي أو تناسى أن رجليه مغروستان في
الأوحال...
وفي غياب الوطن وغيبوبة المواطن...
يتدخل صاحبنا حاكم البلاد الجديد وملك النواصي القادم، بعد تلكّؤ وحياء
مرهف، ورأفة بحالنا وإنقاذاً شجاعاً لموقف طال أكثر مما يجب، ليعلن قبوله
على مضض لهذه "الهدية" وهذا الإرث وهذه المسؤولية العظيمة؛ استجابة لنداء
الضمير، واحتراماً لكل الواقفين على الباب ينتظرون...
وتتهلل أساريره قبل أساريرنا... ويقف
الجميع، ويطول الوقوف والتصفيق والتكبير والتهليل، وتدخل البلاد في الأفراح
والمسرات، ويولد ولي العهد أو وليته... ومات السلطان، يحيا السلطان!!