لكل عمل من اعمال الناس، ولكل فن من فنون الحياة آداب خاصة: فللكلام آداب وللطعام آداب وللمناظرة آداب والمحاماة لها آدابها الخاصة بها تعرف في عالم القضاء بآداب المحاماة. ولقد كانت آداب المحاماة عرفا وتقليدا وأدبا ثم تطور الزمن وتغيرت المفاهيم ودب التحلل من القيم الاخلاقية فلم يجد المشرع بدا من ان يحول تلك الآداب الى وجائب يتعين على المحامي ان يتقيد بها ويعمل على التخلق بها وهكذا امست المحاماة اشتاتا من التقليد والعرف والقانون لا يضمها كتاب ويلم بها بحث.
لذا ولما كانت المحاماة جليلة القدر لجلال رسالتها، كان على من يزاولها ان يكون جديرا بحمل لقب (المحامي) نبيلا بتصرفه، سليما في سلوكه، حسنا في مظهره ، والتصرف الحسن في العمل والملبس والماكل والمعاشرة يضفي على المحامي مظهر الوقار والاحترام.
نبل المحاماة
ليس المحامي بالخصم الحقيقي وليس هو بطرف من اطراف النزاع وانما هو وكيل عن طرف في النزاع، يتولى مهمة الهجوم حينا ومهمة الدفاع حينا آخر، وقد يكون وكيلا عن شخص في نزاع ثم يصبح ضده في نزاع آخر، وقد يصرع خصم موكله (اليوم) في دعوى يتولى مهمة الدفاع عنه غدا في دعوى اخرى.
ولها يتعين على المحامي ان لا يتقيد بواجبه تلقاء موكله فقط وانما عليه ايضا ان يتقيد بواجبات المحاماة الاخرى التي لا محل فيها للخصومات الشخصية.
فلا يسيء للخصم بكلام ولا يجعل منه خصم حقيقي ولا يعامله الا بروح رياضية.
وان لا يسيء لكل من كانت له علاقة بالدعوى سواء اكان شاهدا ام خبيرا ام محاميا ام مدعيا عاما ام حكما، وان لا يسيء على وجه التخصيص لموكله ذاته وذلك برفع معنويات الموكل وان يفرج كربته ويقوي فيه الامل والرجاء، والنبل هو حصيلة كل العلوم والآداب والفنون والمميزات والاخلاق التي يجب ان تتوفر في المحامي.
واذا كان المحامي نبيلا في مزاولة فنه، (نبيلا) في اداء واجبه، فقد ادى رسالة المحاماة كاملة بشرف ونبل. وأن لا يكون رائده غير حمل الناس على احترامه وتقديره ولا مبتغى له غير مرضاة الله تعالى وليتذكر دائما النبل العظيم والمعنى السامي الذي انطوت عليه الآية الكريمة: (ادفع بالتي هي احسن!! فاذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم!!)
الشجاعة: والشجاعة هبة عظيمة من هبات الله وصفة جميلة من صفات الرجولة وميزة خاصة من مميزات (الشخصية) واذا كانت شجاعة القائد عنصرا اساسيا لتفوقه في القيادة وشجاعة الجندي عاملا من عوامل كسب المعركة وشجاعة التاجر في السوق باعث من بواعث نجاحه في تجارته، فما هي شجاعة ذلك الرجل الذي يقف وحده وسط معركة الرأي!! يعلن فيها رأيه ضد فئة وحزب او شعب او جور ولا سند له غير ايمانه بصدق دعوته ولا محفز له غير اخلاصه لربه ومبدئه وشعبه وبلاده ولا رائد له في هذا الموقف النبيل غير الفداء والتضحية انما هو ليس بالشجاع فقط!! وانما هو شجاع الشجاع!!
ان شجاعة الرأي ينبوع من ينابيع الخير والبركة وعامل من عوامل التفوق والنجاح وعنصر من عناصر العظمة والخلود. وان النفس الامارة بالسوء فعلى المحامي ان يحاسبها الحساب العسير في كل ظرف وزمان وعليه الا يطاوعها في التأثر بمال او جاه او خوف.
وعلى المحامي بعد دراسة القضية وتكوين فكرة كاملة عنها ان يواجه صاحب القضية بالحقيقة وان يكون شجاعا في مواجهة موكله معتمدا على ذلك بلجوئه لاسلوب الروية والاقناع والكلام الطيب والاسلوب النفساني، بحيث يخرج الزبون من مكتبه قانعا بوجهة نظره، راضيا مطمئنا او على الاقل غير ناقم او يائس.
والمحامي يدخل بامتحان عسير للتوفيق بين اداء واجبه في المحاماة وبين نجاته من ورطة الموقف وهنا تدخل مشكلة الشجاعة في مواجهة الخصم فقد يكون الخصم متنفذا في المجتمع او مشهور بالقدرة والكفاءة او يحتل مكانا مرموقا او حاكم اتسم حكمه بالظلم فكل هذه الامور تعد تحصيل حاصل لظهور فضيلة الشجاعة لدى المحامي، الشجاعة التي لا تعرف الخوف والمساومة والزلفى.
فليكن رائدك التقدير والاحترام لنفسك وللخصام لان الخصام ذاتهم وبحكم تماسهم بالمحامين يعرفون الصالح منهم والطالح ويفرقون في المعاملة بينهما ويدينون بالاحترام للمحامي الشجاع ويحسون بالاحتقار للمحامي الوقح.
الاستشارات والعقود:
من عمل المحاماة ابداء الآراء القانونية دون تعقيب او مرافعة سواء اكان الرأي على شكل فتوى في موضوع معين ام كان جوابا على سؤال محدد ام كان على شكل استشارة قانونية في مطلق الامور المتصلة بالقانون ام كان على شكل عقد من العقود يقوم المحامي بتنظيمه.
فالاستشارة القانونية من الامور الدقيقة التي يمارسها المحامي فبعض الناس يحملهم الشك والتردد في القطع بأحرص الامور الى ان يستعين برأي المحامي لازالة الشك والتردد والبعض يعتزم القيام بالتزام يخشى عواقبه القانونية.
ان الاستشارة خطيرة النتائج، فهي قد تكون سببا في الاقدام على امر خاطئ او ضار او العدول عن رأي كان صاحبه على صواب فيه. ولهذا يتعين على المحامي ان لا يعطي رأيه فيما استفتى فيه فورا وارتجالا وانما عليه ان يدرس القضية كما لو كان يدرس دعوى ثم يرجع للمستندات ان وجدت ويعود بعدها للقانون يستفتيه قبل ان يقدم هو فتواه.
كل فرد له طبيببه الخاص وله محاميه الخاص سواء بسواء... يستفتيه ويسأله الرأي بسلوك حضاري مهذب
واهمية المحامي كالطبيب.. كما ان هناك الطب الدوائي.. هناك الطب الوقائي.
فاذا كانت مهمة الاول العلاج مهمة الثاني تجنب المرض وتفاديه وما يصح قوله في الطب يصح في القانون اذ هناك الدعوى.. وهناك الاستشارة..
فالدعوى علاج.. والاستشارة وقاية..
الاستشارة خطيرة النتائج قد تكون سببا في الاقدام على امر او الاحجام عنه لهذا يتعين على المحامي الا يعطي رأيه ارتجالا انما عليه ان يدرس السؤال كما لو كان يدرس دعوى.. ثم يرجع الى الوثائق ان وجدت.. ثم الى القانون يستفتيه قبل ان (يتبرع) هو بفتواه.
بعض الزملاء يتطوعون بالاجابة على نحو (مسلوق) ظنا من هذا البعض ان الاجابة السريعة تزيد السائل قناعة بكفائته وتوسع شهرته.
بتقديري هذا خطأ.. لأن السائل سرعان ما يستفتي سواه (مجانا ايضا) ويكشف التناقض في الاجابات.
ولا ننسى ان هناك ممن ابتلاهم الله بداء الاسئلة القانونية يوجهونها الى كل محام يلتقون به مصادفة او اتفاقا.
(وهات في اسئلة)
البعض من هؤلاء يرى توجيه السؤال الى المحامي في اوقات استجمامه وفترات راحته او من خلال لقاء عابر نوعا من المجاملة والتسلية ولا يدري هذا البعض ان ما يفعله (غلاظة) منه وارهاقا للمحامي.
في هذه الحالة على المحامي ان يتحاشى العطاء الجواب موجزا او مختصرا وان يطلب من السائل زيارته في المكتب ليسمعه الجواب حتى ولو كان في حدود كلمة (نعم) او (لا) السبب ان الاستشارة لها مكزها القانوني وهي جزء من اعمال المحاماة فلا تجوز اهانتها بهدرها في الطريق العام او المقهى او في سيارة تكسي..
ثم على السائل ان يعرف حقا ان الاستشارة مصدر رزق فلا يجوز ان يبيحها لنفسه بلا مقابل او اتعاب.
وبالنسبة للعقود فليس من السهل تنظيم العقود فالدعاوى الحقوقية باستثناء العقود الشفوية تقوم كلها على العقود والعقد هو حجرالاساس في كيان الدعوى والعقد فن خاص من فنون المحاماة يحتاج لمهارة خاصة في تفهم مراد الطرفين وقدرة الموازنة بين مصلحتيهما حسب القانون.
ويجب عندما يهم المحامي بتنظيم عقد من العقود يجب مراعاة النقاط التالية:
1- لما كان العقد ارتباطا ينظم مصلحة طرفين على اساس متوازن فينبغي ملاحظة الحقوق المتقابلة بحيث لا يرهق احد الطرفين، ولا يكون الغنم لاحدهما، والغرم للآخر.
وباعتبار العقد من مرتبات القانون المدني فيجب الرجوع لاحكام القانون المدني في العقد وتطبيقها تطبيق كامل، ومراعاة الدقة في مقدمة العقد بحيث يتضح للوهلة الاولى مراد الطرفين دون زيادة او نقصان وان يراعي الايجاز الكامل في القول وان لا يهمل ذكر محل تنظيم العقد وان لا يفضل عن تحديد الضمان الذي يتفق عليه الطرفان وعليه ايضا ان يعين مصير العربون ان وجد وان يذكر كذلك لزوم الانذار من عدمه، اما بالنسبة للمرافعة ذلك النضال العلمي الذي يستخدم في المحامي كل امكانياته بمصارعة الخصم ومصارعة الحاكم والشهود والخبراء والادلة ليفوز آخر الامر ويكسب الجولة فما اشقها؟
من اجل ذلك كانت المرافعة بحرا كبحر المحاماة ذاتها بعيد الشاطئ عميق الغور دائم الامواج.
فما احلى المرافعة عندما يكون المحامي في موقف قوي يصول فيه ويجول من حجج بالاسئلة المنوعة سلاح العلم والفن وسلاح اللسان والبيان.
وما امرها عندما يكون المحامي في موقف ضعيف عندما لا يكون الحق بجانبه وعندما تخونه سلامة المنطق ودامغ الحجة وشجاعة الرأي.
فيجب على المحامي الرجوع للكتب العلمية وصنوف القوانين وشروحها واجتهادات القضاء عليه ان يتدجج بالاسلحة الاحتياطية دون ان يتعكز على عكاز الضعفاء وهي استمهل للجواب، عليه ان يعلم ان السلاح الاهم من اسلحة المعركة هو القلم فعليه ان يدرس الادب وان يكتب ثم يكتب ثم يكتب، وعليه ان يعلم ان ضبط النفس في المرافعة كضبط النفس في الحرب فليحذر الاستفزاز بأمر تافه او سخيف.
فالامراض كثيرة ومتنوعة وهي حتى اذا اتحدت في النوع اختلفت في الظروف والاعراض والاختلاطات والآلام ولك منها طريقة خاصة للفحص واسلوب معين للمعالجة.
والغرض الاساسي من المرافعة هو الاقناع!. اقناع الحاكم بصواب الموقف وابراز الفكرة واضحة الحق والمعالم والقسمات. والمحامي الخاذق هو الذي يعرف كيف يدرس القضية ويهيء حلها وكيف يتفنن لنوال الفوز في المعركة.
والمرافعات تقسم لصنفين اساسيين تبعا لماهية القضايا، فالاول يتناول المرافعات في القضايا الحقوقية والثاني يتناول المرافعات في القضايا الجزائية.
وبالنسبة للدعاوى التي يقبلها المحامي والدعاوى التي يرفضها.
فهذا بحث واسع دقيق للغاية لا قواعد له مكتوبة ولا ضوابط مرسومة لكن الضابط الرئيسي له هو الوجدان فمن البديهي القول ان المحامي ليس في مقدوره ان يسبر غور الموكل ويغوص باعماقه وليس بمقدوره كذلك ان يقرر من دراسة الاوراق والوثائق واستعراض الوقائع انه قد توصل للحقيقة!! فقد تكون الحقيقة محتجزة وراء ستار كثيف، ولكن المطلوب من المحامي عمله في تحريه عن الحقيقة بعد الدرس والاستقصاء والتأمل.
وبالنسبة للدعوى الحقوقية، فان كانت صفة الموكل فيها (مدعي) جاز للمحامي التوكل فيها على ضوء الحقيقة التي توصل اليها.. اما ان طلب الموكل اليه العمل على خلاف ذلك امتنع عليه آنذاك التوكل فيها، اذ يصبح في هذه الحالة مسخرا لتنفيذ رغبات الموكل خلافا للحق الذي بانت له معالمه وخلافا للقناعة التي توفرت له.
اما اذا كانت صفة الموكل فيها مدعى عليه واقتنع المحامي بصدق موقفه وسلامة وضعه جاز للمحامي ايضا التدخل في الدعوى والخوض فيها على الاساس الذي تم التفاهم عليه.
اما اذا طلب الموكل اليه ان يسير في دفع الدعوى على اساس باطل او مغاير للحقيقة فعندئذ لا يجوز له التوكل فيها... وان هو سار فيها على الاساس الصحيح ابتداء ثم حال الموكل بعدئذ للباطل وعمد الى الزوغان عن الحق فعليه ان ينسحب من الدعوى حفاظا على امانة المحاماة.
وخير سبيل لانسحاب المحامي هو ان لا يعلن عن رغبته في الانسحاب في المحكمة ويكون آنذاك في حرج!! وانما يفاتح بذلك موكله ويطلب اليه ان يتولى هو مهمة الدعوى بالشكل الذي يشاءه