قال البعض إنه الحقيقة الوحيدة في الحياة , و قال آخرون إنه نهاية الطريق , و البعض حاول أن يعبّر عنه بأنه مجرّد بداية الحقيقة , و الواقع أنه مهما كثرت الأقوال عن ذلك المصطلح ... الموت... فهي تبقي مجرّد أقوال فلسفية تُحاول أن تعبّر عن حقيقة واحده هي أن يَهمَد جسد الإنسان بلا نبضة حياة فيه ... لا الأنفاس تتردد و لا القلب ينبض ولا الإحساس يستجيب لأي وخز أو ألم...و يبقي الجسد كتلة باردة صمّاء بكماء عمياء لا يحيا فيه سوي بكتريا العفن ولا يرعي فيه سوي الدّود و لا يصلح لشئ إلا للقبر
و الولادة يوم يخرج الإنسان من رحم أمه هي بداية الطريق إلي الموت ... فلو وئِدَ الإنسان في ساعته أو عاش ألف سنة فالنهاية واحدة ...جسد هامد. و الموت ذلك المجهول لا يأتي دائما في إنسياب هادئ ليسحب ما في الإنسان من حياة و يترك لنا نحن الأحياء تلك الكتلة الباردة بل إنه علي مدي التاريخ البشري قد إقتحم الموت جسد الإ نسان ليس فقط بانسياب بل بفظائع و أهوال أحيانا حتي قبل أن يولد و أحيانا في لحظة لا يمكن أن يظنها الإنسان...ليلة عيد....ليلة عُرس....ليلة فرح ... يوم إنتصار...يوم نجاح...يوم مرح و سرور و في غبطة الإبتهاج...
تعددت الأسباب و الموت واحد ... عبارة نقولها ببرود و ربما ترتسم علي شفاهنا بسمة بلهاء فالأحياء دائما ما يكون تفكيرهم أبعد عن أقرب ما يحوم حولهم أو ما تكاد حياتهم أن تتلامس معه... الموت ... و نحن نتعامل معه كشئ نحاربه و نهرب منه أو نحاول أن نتناساه أو نتجاهله... بل نحن فعلا نجهله...هل تنساب الحياة من ذاتها من الجسد أم إن هناك ما ينتزعها منه...هل تتوقف نبضات القلب لأن الإنسان مات ...أم لأن الإنسان مات فقد توقفت نبضات القلب...فإذا كانت حياة الإنسان لُغز فالموت هو لُغز الألغاز...
كثيرون ماتوا في رقدتهم الأخيرة فرادي وحيدون متروكون مهملون أينما كانت هذه الرقدة الأخيرة و كثيرون ماتوا و حولهم أولاد و أحفاد وربما عشرات يبكون و ينحبون حياة تنساب من الجسد ليحل محلها السكون و البرود و الجمود...الملايين يموتون بفعل كوارث الطبيعة التي لا ترحم ...زلازل تشق الآرض فتبتلع مدنا بأكملها فيموت الإنسان إما بسحق جسده أو بخنق الهواء عن أنفاسه أو بالجوع و العطش في فجوة تحت الأرض... فياضانات تكتسح و تغرق أراض و بيوت فيسقط الإنسان تحت لجج المياه و تحبس أمواجها العاتية أنفاسه حتي ينساب إليه الموت أو قل تنساب منه الحياة ....مدنا إحترقت و منازل تفحمت و صارت رمادا ... الكل... أخشابا و أحجارا و أجساد البشر مع البهائم و الدواب و حتي الكلاب
الملايين ماتوا في السفن...في الطائرات...في السيارات...في القطارات...و في قاع البحر في الغواصات...التحطيم و التهشيم و السحق أو الحريق و النار و الإنفجار...أما كارثة الكوارث فهي عندما يَسلِب الإنسان الحياة من إنسان...لا تفسير و لا تعليل لا كيف و لا لماذا ...إنه الجنون و الجنون....و فقط الجنون....
الغضب ... الطمع.... الحسد...الكبرياء و التعظم....الخوف....شهوة سفك الدم و الإنتقام ....كلها تصب في رغبة وحشية لسلب الحياة بوحشية من إنسان آخر ... و تتعدد وسائل نزع الحياة بإختلاف خيالات وحشية هذا الإنسان و دمويته فالرصاص و القنابل و المدافع و الغازات و الحريق و السموم و من قبلها السكاكين و الحراب و السهام و السيوف و القسي و الرماح كلها أدوات الموت البشرية....السيارات معدّة للقتل...الدبابات معدّة للقتل...الطائرات و السفن و الغواصات و حتي الأقمار الصناعية و محطات الفضاء أصبحت مُعدّات للقتل و الموت ...العِلْم في المعامل أصبح يتسابق لإكتشاف مواد و مُعِدّات و أدوات و أسلحة للموت...و ليس الإنسان فقط هو الذي يستخدم أسلحة الموت و يطوّرها بل إن الطبيعة نفسها منذ بداية التاريخ البشري تستخدم أسلحة خفيّة غير منظورة دعوناها أخيرا البكتريا و الفيروسات...تهاجم بها الإنسان في مختلف أجزاء جسمه و تسلب منه الحياة بما نسميه الأمراض و الأوبئة التي تُطوّر نفسها و لا يستطيع الطب و لا العلم أن يلاحق هجماتها علي الجسم البشري...البعض يأتي من الهواء و البعض من الماء أو الغذاء و البعض تنقلها الحشرات و الحيوانات... و الأمرُّ و الأدهي من ذلك إن الجسم البشري نفسه يفرز بداخله و يتكون فيه من ذاته أسلحة فتّاكة تسبب الفشل العضوي للقلب و الكلي و التنفس و الدورة الدموية و الجهاز الهضمي...لا يفرق فيها سِن لا كبير و لا صغير و لا جنس سواء رجل أو إمرأة.
و تبقي لحظات الموت غامضة لا يدركها إلا من يمر بها و هو لا يستطيع أن يصفها و لا أن ينطق بها لأنه يكون قد مات فعلا بلا حياة ...بلا حراك بلا أنفاس في سكون بلا منطق...قد تمرّ أيام من الصراع و الأنين... العيون لا تهجع و الأنفاس تتحشرج و الوجع و الألم يُذهِب العقل و لا يُذهِبهُ الأنين و لا حتي الصّراخ ....و قد تنساب الحياة من الإنسان في نومه أو حتي في جلسة هادئة دون أي ألم دون أي وجع و دون حتي أن ينتبه إليه مَن حوله....و لا أحد يسأل متي سيأتي دوري في هذا الطابور الطويل أو بالحري الجمع الهائل من البشر الذي كل منهم يذهب بطريقة أو بأخري و لا يعود
ديانات قامت علي وجه الأرض قادتها أنبياء و معلّمين و كهنة...البعض قالوا إن عددا من الآلهة قد خلقت أرضنا و ما عليها و البعض قال إنه إله واحد فقط...آخرون قالوا ليس إله بل الصدفة خلقت شئ من لاشئ ... أصحاب الديانات قالوا الموت بعده حياة ...و أصحاب اللاشئ قالوا لاشئ و سيفضي إلي لا شئ...و تصارع الكل بعضهم مع بعض حتي أصحاب الديانات قتلوا بعضهم بعضا في دينهم الواحد و في دياناتهم المتعددة ...و لا أحد يدري هل هو صراع من أجل الموت أم صراع من أجل الحياة...الأرض يملكها الطغاة و العتاة...و المال يملكه الجشعون و الطمّاعون ...أما المستضعفون فمتشردون و جائعون ....و نهاية الكل الحقيقة التي ليس فيها سراب و لا تضارب آراء و لا فتاوي و لا أرض تشفع و لا مال ينفع...تخمد أنفاس الكل...تسكن قلوب الكل و تبرد الأجساد و تنشط البكتريا و يحيا الدود
إذا كنا وُجِدنا فلماذا نموت ...و إذا كنا نموت فلماذا وُجِدنا...و هل يعني هذا إننا وُجِدنا لكي نموت...و لماذا أكثر الموت دائما دموي وحشي أو باغت فاجع أو مفترس عضّال... قليلون أدركوا إقتراب الموت منهم ...و الكثير الكثير اُخِذوا علي غُرّة ...مَن المستفيد من موت الإنسان و مَن المستفيد من حياته... هل هناك مؤامرة ضد الحياة ...هل يتصارع الموت مع الحياة في ساحة هي وجود الإنسان و كيانه...الحياة تبدأ بطريقة واحدة...حَبَلْ المرأة بالرجل و خروج الجنين إلي الحياة... أما الموت فطُرُقه لا تُعد و لا تُحصي و آخرها ما أنتجته الحضارة البشرية الراقية...الصّعق بالكهرباء و الخَنق بالغاز و الذّوبان بالإنفجارات الذرية و الهيدروجينية ... و مع بقاء المدخل إلي الحياة واحِد فالخروج منها يتطوّر و يُستحدث و يتشكّل كل يوم...
و الموت قد يظهر لنا نحن الأحياء أنه موضوع عام قابل للدراسة و المناقشة و البحث ....إلا أنه في الواقع موضوع شخصي بحت...أين أبي و أين أمي...أين أجدادي من رأيتهم و من لم أرهم...أين ذهب بعض أصحابي أو قل أغلبهم....مصطلح واحد ينطبق علي الجميع... ماتوا.... مصطلح بارد جامد قاسي... لكنه واقعي وحقيقي معناه عدم وجود من كانوا هنا... أوجدني أبواي و تركاني و ذهبا... بل ماتا... و أنا أيضا سأترك أولادي و أذهب.... سأموت ...و أنت يا قارئي العزيز سترحل أيضا...في جميع الرحلات التي في عالمنا هذا ... يأخذ المرء معه ما يلزمه للطريق بحسب الرحلة ... أما الرحلة التي نحن جميعا ذاهبين فيها فهي الرحلة الوحيدة التي يترك فيها الإنسان وراءه كل شئ حتي جسده و يرحل