لا يتحقق الوجود إلا من خلال شجاعة المواجهة ,مواجهة مقاومة العدم .إذ أن ماهية الإنسان ماهية مستمرة وغير قارة ,بمعنى إنها ماهية مشوبة بحذر الوقوع في السأم والضجر .حيث أن ماهية الإنسان ليست ماهية ناجزه بكونها ((حيوان ناطق)) مسورة بسور القضايا الكلية حسب ذهنية المنطق الأرسطي.وإنما هي ماهية قائمة على مقارعة الإمكان الذاتي لأفق المتغيرات تطلعاً لمعانقة العروج الوجودي منزلة الوجوب أو العدم حيث إن كلاً من التوحيد و الإلحاد مقولة مستحيلة لا يمكن الوصول إليها .فمن يستطيع إن يدرك الذات الواجبة أو يحيط بها فهماً ,فيكون موحداً . ومن يا ترى يستطيع أن يعيش بلا أي مرجعية أو مثل أعلى أو منية ,فيكون ملحداً؟!
فكرة توحيد الصرف أذن مثل فكرة الإلحاد المطلق ,تلتقيان بقضية ترك مغامرة مواجهة المتغيرات باعتبارها من خصوصيات الإمكان الذاتي بخلاف التوحيد والإلحاد حيث أن كلاهما مرتبط بالغنى الذاتي .ومن هنا كان الأمام السجاد يقول فمن رام وراء ذلك فقد هلك .إذ سوف ينتهي بحث التوحيد إلى الإلحاد تماماً كما ينتهي بحث الإلحاد إلى التوحيد باعتبار أن التوحيد في نهاية المطاف هو فكرة وصور ذهنية وهي ممكنة لابد أن ترتبط بالوجوب. إذن هناك قناع للحقيقة هو الحياة وهناك قناع آخر هو الموت .والقناع هو غير الوجه فمن الشطط أن يكون قناع الحياة طريق لمعرفة الوجه وكذلك أن يكون الموت طريق لها .وعلى هذا الأساس تستحق رباعية الخيام أن تقرأ بطريقة أخرى خارج التلقي النمطي لها ,اقصد الرباعية التي يقول فيها :
مررتُ أمس بخزافٍ يدققُ في
صنع الثرى دائباً من دونِ إنصافِ
شاهدتُ إن لم يشاهد غير ذي بصرٍ
ترى جدودي بكفّي كل خزافِ
فمن لا توعظه الحياة لا يوعظه الموت ومن لا يرى الصورة بألوانها لن يفهمها بلون الرماد ,ومن لم يرَ في النور ماذا عساه أن يبصر في عتمة القبور؟!
ينتقد الشيخ المجدد محمد رضا المظفر والعلامة محمد حسين الطباطبائي ,كغيرهما من المؤمنين بثنائية الماهية والوجود من إسلاميين وغيرهم,مقولة الوطن وكونها مقولة مغالطية غير مفهومة فما هو المقصود من مفردة وطن الاشتراك في اللغة أم في العرق أم في الحدود الجغرافية أو الانتماء الديني أو الثقافي ؟! وكذلك لا يستطيع العلامة الطباطبائي (مثله مثل سيد قطب والغزالي و القرضاوي ) فكرة التضحية من اجل الوطن فالانسان حينما يموت وهو ميت في سبيل الوطن لا يصله المدح والقدح !
يستطيع القارئ هنا أن يلتمس كيف أن هذا النسق الذهني يقارب الأشياء بكونها مقولات نهائية فالماهية أمكنت فتمكنت وأُجبت فوجدت.وحينما وجدت حق معادها .هكذا ألغت الحكمة المتعالية الحياة الأمكانية وحصرت الفلسفة بين مقولة الوجود المحدود الماهية وبين بحوث المعاد .بات البحث الفلسفي هو بحث الوجود الذهني والأحكام العامة للوجود وبحوث المعاد. انتهت بحوث الأسرة تدبير المنزل والفلسفة السياسية وبحوث الجمال واللغة,فهذه كلها متعلقات المتغيرات والحكمة المتعالية تبحث عما هو ثابت.وطبيعي لفلسفة هذا مآلها أن لا تستطيع فهم مقولة الوطن وتطرد بحوث تدبير المنزل ,فلا يبقى من بحث تربية الأطفال والفتيان سوى سطور بائسة متعلقة ببحث المعاد كما فعل صدر الدين الشيرازي .
و أذا كان للفلسفة تنزلات ومؤثرات على الثقافة الشعبية لكل وطن من الأوطان ,فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للحكمة المتعالية .فبهجة الأطفال بأكياسهم الصغيرة ممارسة نقضية لخطباء منابر أخذوا يغرقون الأذهان بتفسيرات معينة لروايات الأئمة وصياغة العقائد الدينية من العصمة وحتى المعاد وخلق الأفعال حسب معجم هذه الفلسفة ,يتقافز الأطفال مجددين وجه الوطن نازعين عنه إنشاءات الموت والتكتلات الطائفية وغيرها من الأعتباريات التي تقعد بالإنسان عن ممارسة نشاطه الماهوي بكونه إمكان ذاتي تطور مكفول بمدى تواصيلته مع حقائق الوجود ,حيث الإنسان مقولة غير نهائية وكذلك الوطن مقولة غير قارة وثابتة ومنتهية و أنما الإنسان والوطن مقولات سيالة مستمرة مفتوحة على أفق المستقبل تتحد فيها الاعتقادات والتمنيات كطفولة تعدو في الشوارع و الأزقة تبحث عن حلوى أسمها الأمل .