ثمة خاصية واضحة في هوية العراق، موجودة اساسا في تكوينه وتفاصيل حياته بكل تجلياتها المادية السكانية والمعنوية الثقافية الحضارية، الا وهي( الثنائية)!
يبدو ان هنالك ظروف بيئية داخلية وجغرافية خارجية حتمت هذه الثنائية العراقية. اول هذه الظروف واكبرها تتمثل بثنائية(دجلة والفرات). لو قارنا العراق مع مصر، فأن تمركز مصر حول( النيل) جعلها متوحدة ومنطوية على ذاتها، سكانيا وحضاريا. اما العراق، فأن هذين النهرين الخالدين جعلاه ثنائيا ومنقسما على ذاته سكانيا وحضاريا. وهذاالانقسام الثنائي، تناقضي وتكاملي بنفس الوقت، او حسب الظروف. فان التناقض يستفحل في فترات الضعف والانحطاط، اما التكامل فيشتد في فترات الاستقرار والازدهار.
ان هذه الثنائية الداخلية النهرينية، قد تعززت بثنائية الموقع الجغرافي للعراق، بين عالمين مختلفين كثيرا:
ـ عالم شرق نهر دجلة: الآسيوي ـ الآري ـ التركستاني ـ الهندي ـ القفقاسي، حيث جبال زاغاروس والهضبة الايرانية الممتدة عبر هضاب افغانستان وآسيا الوسطى حتى الهند والصين. وايضا عبر سواحل الخليج حيث العلاقات البحرية مع العالم الهندي. كذلك عبر اعالي دجلة حيث الاناضول وجبال القفقاس.
ـ عالم غرب نهر الفرت: العربي ـ السامي ـ البحر متوسطي، حيث بادية الشام المرتبطة ببوادي الجزيرة العربية، وكذلك أعالي الفرات الممتدة غربا داخل الشام وسواحل البحر المتوسط.
وهذا الانقسام الجغرافي في المحيط ، له امتداده في داخل العراق، فأنه منقسم ايضا الى شمال وشرق جبلي وشبه جبلي، ثم جنوب وغرب سهلي وشبه صحراوي.
حضور الثنائية
هذه الثنائية (السامية ـ الآسيوية) ملحوظة في التكوين العرقي والثقافي للعراقيين. فهناك العرب والسريان(ساميون)، وهنالك الاكراد والتركمان(آسيويون). ثم هناك الثنائية الدينية ـ المذهبية، بين الشيعة والسنة.
يمكن مثلا ملاحظة الناحية الثقافية الحضارية، حيث جمع العراقيون على مدى التاريخ، وبعبقرية بين الروحين الآسيوية والسامية. يكفي ان ننظر الى الغناء العراقي، فأنه يجمع بين الصوتين الآسيوي والسامي. حتى الطبخ العراقي فأنه يجمع بين هاتين الثقافتين. حتى اشكال العراقيين فأنها تجمع هذه الخواص البيئية المختلفة. على هذا المنوال يمكننا ان نشاهد كل الجوانب المادية والثقافية والبشرية والحضارية في الماضي والحاضر.
اما في التاريخ الحضاري فان هذه الثنائية الحضارية تكاد ان تكون ملحوظة حتى في العراق القديم، بين الآشوريين في الشمال، والبابليين في الوسط والجنوب. فرغم وجود الثقافة واللغة الواحدة والديانة الواحدة، الا ان الآشوريين كانوا يقدسون ايضا ألههم الخاص(آشور ـ الثور) رمز القوة والفحولة، بما يخالف البابليين الذين كانوا يميلون اكثر الى (تموز) رمز التضحية والفداء من اجل الخصوبة والحياة.
وبعد ان اعتنق العراقيون المسيحية، انقسوا ايضا بين(نساطرة) في الوسط والجنوب و(يعاقبة) في الشمال وبعض الوسط.
على هذا الاساس التنوعي في الجغرافية الخارجية والموضع الداخلي، فأن البيئة (الاقوامية ـ الثقافية) العراقية قد انقسمت الى نوعين مختلفين اكثر وضوحا، تجمع ما بين(الموضع والموقع)، الا وهي ثنائية(دجلة والفرات). آخذين بنظر الاعتبار ان هذا الانقسام البيئي الثنائي مصحوب ايضا بأنقسام ثقافي ـ لغوي.
بيئة دجلة
وتشتمل على كل المحافظات الواقعة مباشرة على نهر دجلة( نينوى وصلاح الدين وبغداد واسط وميسان)، كذلك المحافظات الواقعة شرق دجلة( دهوك واربيل والسليمانية وكركوك وديالي)
وتتميز هذه البيئة جغرافيا وطبيعيا وسكانيا بالخصوصيات التالية:
ـ من الناحية الجغرافية الخارجية فانها منفتحة على اكبر الهضاب الجبلية في المنطقة: من الشرق حيث الهضبة الايرانية الممتدة حتى هضاب افغانستان وآسيا الوسطى. اما من الشمال فأن دجلة يصب من جبال(طوروس) المرتبطة بجبال القفقاس.
ـ من ناحية الطبيعة الداخلية فانها متنوعة التضاريس، حيث تكثر الجبال والمرتفعات في شمالها وشرقها وخصوصا في المناطق المحاذية لايران(جبال زاغاروس) وتركيا(جبال طورس). وتحاذي الجبال بمسافات قريبة امتداد دجلة حتى مصبه في شط العرب. وتتكاثر الاهوار الكبرى والانهار(مثل الكارون) في الجنوب.
ـ اما من الناحية السكانية، فأن الخصوصية الكبرى الملحوظة، هي التنوع السكاني الكبير جدا من النواحي اللغوية والدينية والمذهبية. بل يمكن القول ان جميع الفئات العراقية المختلفة لغويا ودينيا تعيش على او شرق دجلة: ( عرب، اكراد، تركمان، سريان " كلدان وآثوريين"، يزيدية، شبك، فيلية، ارمن.. الخ)..
بينما الفرات يجلب الانتباه بأنه جميع سكانه، بما فيه القسم السوري، هم(عرب مسلمين)!
ان موقع نهر دجلة المحاذي لاكبر السلاسل الجبلية في الشرق الاوسط، وكذلك موقعه المنفتح على اكبر هضاب آسيا، جعله مكانا دائما لاستقبال الموجات الاقوامية التالية:
ـ الموجات الكردية، وهي اكبر الموجات الدائمة لأنها الاقرب لأنها تأتي من جبال زاغاروس المحاذية.
ـ الموجات الآرية القادمة خصوصا من الهضبة الأيرانية.
ـ الموجات التركستانية القادمة من هضاب آسيا الوسطى.
ـ الموجات القفقاسية والاناضولية القادمة من جبال طوروس والقفقاس.
كل هذا جعل بيئة دجلة متنوعة بشكل كبير من الناحية الاقوامية واللغوية، وخصوصا في المنطقة الواقعة شمال شرق دجلة( دهوك واربيل وكركوك والاسليمانية وديالى) وهي المحاذية مباشرة للجبال والهضاب المذكورة. وهي متنوعة لغويا حيث تسود اللغات الكردية(السورانية والبهدانيانية والخانقينية) وكذلك التركمانية والسريانية بالاضافة الى العربية.
اما مناطق ضفاف دجلة ( نينوى وتكريت وسامراء وبغداد والكوت والعمارة) فأن موقعها البعيد نسبيا عن عن الحدود الجبلية وموضعها السهلي، جعلها اكثر قدرة على الامتزاج السكاني والثقافي وسيطرة لغة واحدة طيلة التاريخ: الاكدية، ثم الارامية ثم العربية. لكن هذه الانسجام الاقوامي اللغوي، لا ينفي حقيقة ان الاصول السكانية لهؤلاء السكان، بما فيهم سكان الاهوار، متأثرة كثيرا بالعناصر والقفقاسية والكردية والآرية والتركستانية..
ان اهم ميزة ثقافية ـ لغوية لهذه البيئة هي(التنوع) حتى في داخل المجموعة الثقافية والمدينة الواحدة. فلو اخذنا الاكراد مثلا، فهنالك اللغات السورانية والبهدنانية والخانقينية. لو اخذنا( مدينة اربيل) فأنها كانت تاريخيا بغالبية(سريانية) ثم في القرون الاخيرة اصبحت مركزا لوجود تركماني كثيف، ثم اخيرا منذ بضعة اجيال اصبحت بغالبية كردية.
ان محافظة(كركوك) تعتبر ايضا افضل نموذج لهذا التنوع الكبير في (بيئة شمال شرق دجلة)، حيث التعايش التركماني ـ الكردي ـ العربي ـ السرياني ـ الارمني. كذلك العاصمة(بغداد) فأن تنوعها الكبير لا يعود فقط لأنها عاصمة الوطن، بل ايضا لأنها تقع على دجلة.
من الناحية التاريخية الحضارية فأن (نينوى) تعتبر مركزا حضاريا عراقيا بخصوصية( دجلوية)، حيث شكلت مركزا جامعا لكل التنوعات الاقوامية والثقافية لبيئة شمال دجلة، مع سيادة الثقافة السامية(الاكدية بلهجتها الآشورية). خلال آلاف الاعوام ظلت (نينوى) الآشورية، في حالة تنافس سياسي وتكامل حضاري مع (بابل) التي مثلت الحضارة العراقية بخصوصيتها(الفراتية).
ليس صدفة ان شمال العراق اجمعه، بقي في ظل الدولة العثمانية، تابعا اداريا وثقافيا واقتصاديا الى الموصل. ان مركزية الموصل بقيت بالنسبة الى شمال دجلة حيث اهميتها الاقتصادية والتجارية ودورها الكبير والمؤثر على اصقاع شرق دجلة المتنوعة والمختلطة لاقوام عربية ريفية وشبكية ويزيدية وكالدانية وسريانية وكردية بهدينانية وتركمانية، وما يتفرع من كل هذه الاصول من ثقافات تجد الوانها شاخصة في الموصل التي تعتبر متحفا لثقافات لا حصر لها ابدا.
بيئة الفرات
وتشتمل على المحافظات الواقعة على نهر الفرات او قربه: ( الانبار، كربلاء، النجف، بابل، القادسية، المثنى، ذي قار). وهي بيئة مختلفة تماما عن بيئة دجلة، من حيث طبيعة الموقع والموضع، وبالتالي من حيث التكوين السكاني واللغوي.
من ناحية الموضع، فأن بيئة الفرات شبه صحراوية وسهلية منفتحة. وهي من ناحية الموقع، فأنها متصلة من الجنوب الغربي ببادية الشام المتدة جنوبا الى بوادي الجزيرة العربية، اما من الشمال الغربي فأنها تتصل في نواحي سوريا حتى ضفاف البحر المتوسط.
لهذا فأن بيئة الفرات ظلت دائما من الناحية الاقوامية والثقافية ، بيئة(سامية بحر متوسطية)، تسودها دائما وحدة لغوية سامية(اكدية ثم آرامية ثم عربية)، مع تأثير واضح بالقبائل الرعوية وكذلك ثقافة الشام والبحر المتوسط والجزيرة العربية.
من الناحية التاريخية الحضارية فأن (بابل) تعتبر مركزا حضاريا عراقيا بخصوصية(فراتية)، حيث شكلت مركزا جامعا لكل التنوعات الاقوامية والثقافية لبيئة الفرات، حيث سادت الثقافة السامية(الاكدية بلهجتها البابلية). خلال آلاف الاعوام ظلت (بابل)، في حالة تنافس سياسي وتكامل حضاري مع (نينوى) التي مثلت الحضارة العراقية بخصوصيتها(الدجلوية).
الثقافة(النهرانية) الجامعة
ان الثقافة العراقية منذ فجر التاريخ وحتى الآن، هي ملتقى هاتين البيئتين المختلفتين المتكاملتين، اقواميا ولغويا. ان هذه(الثنائية) هي نوع من (القدر) الجغرافي التاريخي الذي يميز العراق منذ الازل:
ـ بيئة دجلة الآسيوية الجبلية
ـ بيئة الفرات السهلية شبه الصحراوية البحر متوسطية
هنالك ثلاث مدن رئيسية جمعت بين هاتين البيئتين المتناقضتين المتكاملتين: نينوى وبغداد والبصرة.
ان (بغداد) تعتبر افضل مثال على هذه الثقافة النهرانية الجامعة لبيئتي دجلة والفرات. رغم ان بغداد تقع على نهر دجلة، الا انها تتميز بناحيتين:
ـ انها تقع في اقرب نقطة يقترب فيها النهران، وهذا ما جعلها فعلا ملتقى لهذين البيئتن.
ـ انها تقع في وسط بلاد النهرين، بين الشمال والجنوب.
ان العبقرية العراقية(العباسية) هي التي اختارت (بغداد) في هذا الموقع الوسطي الجامع بين الشمال والجنوب، ودجلة والفرات، من اجل تجنب الخطأ الكبير الذي وقع فيه اسلافهم، عندما ظلوا مشتتين بين مركزين متنافسين(نينوى) و(بابل).
ان بغداد منذ تأسيسها وحتى الآن ، ظلت تعبر بصورة مكثفة عن التكوين الاقوامي والثقافي لبيئة دجلة، حيث يتمزج فيها العربي مع الكردي مع التركماني مع السرياني مع الارمني مع الصابئي، كذلك هي ملتقى جميع الاديان والمذاهب العراقية.
رغم ان ثقافات عالم ما بين النهرين دجلة والفرات متنوعة وشاملة للبيئتين، الا انها ظلت عموما (سامية ـ عربية) لكونها ارض سهلية(تسهل) عملية التمازج وتفرض على الجماعات الجبلية تفقد قولتها الثقافية وتمتزج بالثقافة السهلية (السامية ـ العربية).
اما (البصرة) فأنها لها خصوصيتها العراقية الشمولية، من النواحي السكانية والثقافية. فهي جامعة للنهرين في نهر عراقي عظيم ثالث هو شط العرب. ثم ان البصرة، من دون المدن العراقية، جمعت في موقعها بين مختلف المؤثرات الجغرافية المحيطة: بيئة البادية الممتدة ناحية الغرب حيث الشام والجنوب حيث الجزيرة العربية. اما من الشرق فبيئة ايران وجبال زاغاروس القريبة ناحية الاحواز. يضاف الى هذا جغرافية جديدة خاصة بالبصرة، الا وهو الخليج العربي الممتدة في حتى المحيط الهندي وجنوب آسيا. ومن هذا الخليج ارتبطت البصرة بالسواحل العربية والسواحل الايرانية والهندية، بل حتى مع السواحل الافريقية. كل التنوع الجغرافي البيئي، جعل البصرة مركزا حضاريا وسكانيا كبيرا ومتميزا له خصوصيته الجامعة الشمولية التي تجتمع فيها المؤثرات السامية ـ العربية، والايرانية والهندية والافريقية.