"إن حب التفكير نقمة.. آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر"
هذه الكلمات للأديب المسرحي الرائع توفيق الحكيم الذي تحل علينا هذه الأيام ذكرى رحيله، وقد كان الحكيم قامة أدبية شامخة أثرى المكتبة العربية بأعماله الأدبية المتنوعة وترك رصيدا هائلا من أعماله التي بلغت 100 مسرحية و 62 كتابا، ترجم منها الكثير إلى عدد من اللغات الحية.
وفي ذكراه نتوقف عند كتابه "حماري قال لي" وهو سلسلة من المقالات في واقع المجتمع المصري في ذات الوقت عام 1945، ولكن ما يثير الدهشة حقا أننا نشعر وكان الحكيم يكتب عن واقعنا الآن خاصة حين يتحدث عن فساد الأحزاب، وعلو شأن المادة على القيم والمبادئ، وتفشي النفاق في المجتمع.
والحكيم هو الأب الروحي لكٌتاب الحمير المصرية في الأدب المعاصر بدأها بـ "حماري قال لي" ثم "حمار الحكيم"، "حماري وعصاي والآخرون" وغير ذلك، حيث يقول الحكيم "الحمار له في حياتي شأن..إنه عندي كائن مقدس كما الجعران عند المصريين القدماء".
فقد رافق الحمار توفيق الحكيم فى كل مغامراته تقريبا ومن هنا نشأت بينهم صداقة وألفة وصارا صديقين حميمين فعندما أراد أن يكتب تأملاته ومناقشاته السياسية والاجتماعية والثقافية النقدية كان لابد له من أن يختار له رفيق يرافقه فى هذه المناقشات ويحاوره وفى نفس الوقت يستريح له ويحبه ويستحسن لو كان لا يعانده فلم يجد الحكيم أفضل من رفيق دربه وصديقه الصدوق حماره الذى أصبح أشهر حمار بعد حمار جحا بسبب تلك المناقشات التى دارت على لسانه مع الأديب توفيق الحكيم.
يقول الحكيم: لقد سميته – أي الحمار - الفيلسوف وقد علمني أشياءا كثيرة بمجرد صمته وارتفاعه عن لجج البحر الخضم: بحر السخف الإنساني!.
حماري والطوفان
يروي لنا الحكيم عن حوار بينه وبين حماره يبدي فيه الحمار رأيه في طوفان نوح قائلا ان الأرض بعده أنبتت الشر أيضا من جديد، فأجابه الحكيم: أتدري لماذا؟ لأن ابليس كان قد دخل السفينة مع من دخل، ولم يغرقه الطوفان مع من أغرق، لم يحدث الطوفان إلا مرة واحدة أقصد طوفان الماء، وقد وعد الله بأن لا يعيده ولكنه استعاض عنه بطوفان من نوع آخر يحدث في كل جيل مرة أو أكثر ذلك طوفان الدماء!.
ولكنه لا يجدي أيضا فقد شربت الأرض دماءها وابتلعت آثامها وظن العالم ان أصنام القوة المادية قد حطمت وأوثان الطغيان قد هدمت، وأن الحق وحده هو المسيطر، وأن الخير هو المنتصر..وأن الدول الصغيرة والدول الكبيرة سواء أمام سلطان الحق وحده، وأن الشعوب القوية والشعوب الضعيفة متساوية أمام سيد واحد هو: النفع العام لبني الإنسان دون أثرة أو نعرة.. ونهض الناس سائلين الله أن لا يعيد الحرب مرة أخرى.. فما الذي حدث؟.
حدث الذي حدث في الطوفان الأول تعلق إبليس بذيل الرئيس ولسون! صاحب المبادئ الأربعة عشر المشهورة التي كانت ستكفل للعالم سيادة الحق والعدل والخير والسلام.
إذن لقد خاب ذلك الطوفان وها نحن أولاء في طوفان جديد..لم تبتلع الأرض بعد دماءه، فقد ضربت القنابل كل بناء وهدمت كل جدار، أظن أنه قد آن للبشرية أن تعقل وأن تبلغ رشدها وأن تتحرر نهائيا من طغيان غرائز الدنيا وأن تكف عن تمزيق بعضها بعضا، وأن ترتفع إلى حيث تعمل متكافئة لمصلحة الإنسانية كلها جمعاء، دون ضغائن ولا سخائم ولا بغضاء..ودون تمسك بغرور كاذب، وعظمة زائفة وحب تسلط وشهوة سيطرة، دون عبادة لأصنام الكبرياء الذاتي.
ويخالفه الحمار الرأي قائلا: إن هذا شئ عسير على الإنسان لابد للإنسان من عبادة الأصنام، لم يستطع طوفان الماء ولا طوفان الدماء أن يغرق الأصنام التي يصنعها الإنسان لنفسه!
أجبني إذن ما فائدة الطوفان إذا كان لا يستطيع أن يغرق إبليس؟.
لم يُجعل الطوفان ليحل شيئا ولكن ليلطف من وقع الأشياء إنه حمام يهدئ أعصاب البشرية كلما احتاج الأمر، لقد فقدت الأمل في وجود العلاج الحاسم، فلم يعد حتى طوفان الدماء في نظري غير نوع من الحجامة او الفصد يلجأ إليه الإنسان كلما ازداد الضغط.
والعلاج عندي أقصد عند فصيلتي فنحن نفكر جميعا تفكيرا واحدا فليس عندنا حمار مثالي وآخر مادي، وليس عندنا زعماء ولا قادة، ولا أوثان ولا أوطان، بل يوجد حمير على أرض الله وكفى، شعورها واحد وقلوبها واحدة.
كبرياؤكم الزائل إنه في دمكم الذي فسد لا أمل فيكم ولا علاج لكم إلا بعملية نقل دم جديد، وإنها لتضحية كبرى من فصيلة الحمير لا أنصح أن تتحملها من أجلكم!.
حزب الحمير!
وعن فساد الأحزاب يروي الحكيم حوارا متخيلا بينه وبينه حماره الذي قال ألم تفكر في الانضمام إلى حزب من الأحزاب؟ خطرت لي فكرة طريفة ما رأيك لو ألفنا نحن حزبا عاملا إنك تعلن لي في كل مناسبة إعجابك بي وبفصيلتي من الحمير لقوة مراسنا وطول صبرنا وشدة جلدنا على العمل فما قولك لو شرعنا في انتخاب نحو ثلاثين حمارا من الطراز الأول نؤلف منها الحزب؟.
وأرشحك انت للرياسة لأن مسألة الرياسة دقيقة جدا تولد دائما مشكلات وعقبات وخصوم، وإنك لتعلم أن كل مشروع نافع لا يفسده غير التنافس على الرياسة، وكل إنفاق لا يقف في سبيله إلا الخلاف على الرياسة، فإذا أردت نجاحا لمشروعنا هذا، فليكن الرئيس من الخارج. المهم هو تشكيل الحزب وانتخاب الرئيس واختيار المكان المناسب أو النادي الملائم.
ويجيبه الحكيم قائلا: ياسيدي كما تعلم لا أعرف لعب الطاولة أو الشطرنج ولست ساحر الحديث ولا ظريف المجلس ولا أحب أن أكون من ذوي الجاه كل ما عندي قلم لا أرضى أن أسخره في هدم الأشخاص لمجرد الهدم، ولا أن أستخدمه في بناء أشخاص طمعا في الغنم، إنما هو خادم بالمجان لأي فكرة كبيرة أدافع عنها، تلك هي كل مهمتي وكل مطلبي والباقي لا وزن له عندي.
ويستنكر الحمار كلام الحكيم قائلا: ما هذا؟ تريد فكرة كبيرة وفلسفة عظيمة ولا تريد الهدم، ولا الغنم، ولا المال، ولا الجاه، تريد أن تعلن ذلك حتى يقولوا عنا: إنه حقيقة حزب حمير؟.
توفيق الحكيم
يحيا الذهب!
قال لي حماري ذات يوم: ألم تفكر في مستقبلي، لقد عشت معك حتى الآن عاريا لا سرج ذهب ولا برذعة مرصعة، هذا ما يشغل اليوم كل إنسان، إن الناس كلها من حولنا تفكر في الذهب وتعيش للذهب وتتنفس بالذهب، ولا أجد عندك سوى كلمات!، وهنا يعنفه الحكيم قائلا:
أنا لا أطيق أحدا يحقر الأفكار والكلمات! إن الكلمات هي التي شيدت العالم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينشر الإسلام بالذهب، بل بالكلمات، وإن عيسى لم ينشئ المسيحية بالمال، بل بالكلمات الصادقة والأفكار العالية والمبادئ العظيمة هي وحدها التي قادت الإنسان في كل أطوار وجوده وبنت الأمم والشعوب في كل أدوار تاريخها، ما من حركة وطنية أو قومية أو إنسانية قامت أول أمرها على شئ غير المبادئ والكلمات، وعندما يظهر الذهب آخر الأمر ببريقه ورنينه فاعلم أن آوان الانهيار قد آن وأن هذا البريق سوف يذيب المبادئ بأشعته الساحرة، وان هذا الرنين سوف يصم الآذان بجرسه الفاتن عن سماع الكلمات.
ألا تسمع أن كل رجل كفء يتباهى بأن دخله من الشركات كذا ألف؟ فإذا طلب لواجب قومي وازن في الحال بين خسارته المالية هنا وربحه المالي هناك . حتى المعنويات والمثل العليا فقدت قيمتها في سوق الذهب، فينسى الأطباء أحيانا واجبهم الحقيقي ويفخر أحدهم بدخله السنوي، ولا يفخر بعمله الإنساني، والزواج هو الآخر أصبح علاقة مكسب وخسارة في ميدان المال فإذا تزوج أحدهم تساءل المجتمع على الفور عما تملك العروس، لأن هذا هو المبدأ الذي تقوم عليه الآن هذه الشركة "المقدسة"!.
ورجال العلم تركوا عملهم ونظروا إلى الدرجات والمرتبات، فلن تجد في بلادنا عالما منكبا على عمله تحت "مكرسكوب" ليل نهار ليستكشف جديدا دون أن يكون له مطمع غير أفكاره العلمية ونجاحها، وخدمة الإنسانية لذاتها.
ويضيف الحكيم مخاطبا حماره: أيها الحمار العصري، إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة في كافة الشعوب..انظر حولك تجد شعوبا لم تزل تبذل دماءها سخية من أجل أفكار ومبادئ، ما هو الدافع الذي يدفع هؤلاء الملايين من الشباب الناضر إلى الجود بأرواحه ودمائه؟.
أهنالك دافع آخر غير بضع كلمات آمن بها فدفع فيها دمه الغالي؟ إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة إلا في نظرنا نحن، إن الكلمات الصادقة العظيمة بخير وهي لم تزل حافظة قوتها في كثير من الأمم والشعوب قديرة على أن تثير في القلوب حب التضحية بغير ثمن.
لقد اجتمع الضدان في كل زمان منذ فجر الخليقة والعظمة تسير إلى جانب الحقارة والسمو إلى جانب التدهور والعلو إلى جانب الحضيض ولكن العبرة أي الطريقين تختار لنفسك ولأمتك؟.
حماري والنفاق
يروي الحكيم أن حماره سأله ذات يوم عن الفرق بين معشر الحمير ومعشر الآدميين؟ وأجاب الحمار: وجدت أن الفرق الأساسي بيننا وبينكم هو أنكم تعرفون النفاق ونحن لا نعرفه وقد عللت نفسي ومنيتها بحلم جميل هو أن تعلمني النفاق لأنه لو أمكنني تعلم النفاق وإدخاله في فصيلة الحمير لانقلبنا مخلوقات مثلكم.
فلقد أخبروني أن أفرادا قاموا ينادون بأفكار حرة فاتهمهم الناس بالالحاد، فلم يكتفوا الصمت بل قاموا في اليوم التالي يحملون المسابح الكهرمان ويرتدون العمائم الخضر، وسياسين قد خلق الله لكل منهم وجها واحدا، فصنعوا هم لأنفسهم وجوها عدة يستقبلون بها كل حكومة تقوم أو كل أزمة وزارية تطرأ، ومرءوسين يداهنون الرؤساء على حساب الدولة، ورؤساء يراءون الشعب على حساب المصلحة، وأهل دين يملئون الصحف ضجيجا حول الأخلاق، ويدقون طبلا ضد الرذيلة، وما يقصدون في سريرتهم غير التظاهر والإعلان، ورجال تقوى يأمرون الناس بالعفة ويستثنون أنفسهم وذويهم.
المجتمع يشمئز من الآثم واللص والشرير والفاجر، ولكن لو ابتسم الحظ لواحد من هؤلاء فنال سلطة، أو أصاب ثروة فسرعان م يبتسم له المجتمع أيضا ويستقبله استقبال الأمجاد الأبطال.