المذهب الاجتماعي
في أواخر القرن التاسع عشر، اقترح (دوركايم) ثلاث قواعد تطبق على القانون:
ألف: ضرورة دراسة الظاهرة الاجتماعية بمنهج الملاحظة والتجربة، كما تدرس الظاهرة الطبيعية تماماً.
وبما أن القانون ظاهرة اجتماعية، فعلينا دراسته بهذا المنهج، حيث أن مصدر القانون هو العرف الذي يتكوّن عفوياً.
باء: الظاهرة الاجتماعية تأتي نتيجة ضغط المجتمع، وليس نتيجة تفكير فرد أو أفراد من أبنائه تفكيراً موضوعياً عقلائياً. والقانون أحد أبعاد الظاهرة الاجتماعية (إلى جانب الأخلاق والدّين واللغة والثقافة وما أشبه)، فهو يولد نتيجة الضغط.
جيم: أيّة فكرة أو ظاهرة أو اتجاه في المجتمع، يعتبر انعكاساً للروح الجماعية؛ أي لتلك الشخصية المستقلّة للمجتمع. والقانون - بدوره - هو قانون تلك الشخصية، وحسبما يقول باتيفول: ولكون كل مجتمع يعيش القانون، فعلم الاجتماع يؤدي - إذاً - إلى مشاهدة الظاهرة القانونية في قواعد تنظيم أيِّ تكتل بشري، سواء أكان الأمر يتعلّق بأضعف جمعية أو بأقوى دولة أو بالأسرة الدولية111.
ولقد انعكس نشاط علم الاجتماع (الذي أسسه دوركايم) على أراء خبير قانوني فرنسي اسمه (هوريو) إلا أنه رأى أن للفرد أيضاً مبادراته. وهكذا لابد من مناقشة آراء (هوريو) عند دراسة المذهب الاجتماعي في القانون ، وأكبر مشكلة عنده هو أنه قيّد علم القانون ولم يفرق بين مجال علم الاجتماع ومجال القانون، حيث ان علم الاجتماع يدرس ما هو "قائم" بينما علم القانون يدرس ما "ينبغي" أن يكون. وهكذا انتقده "جيني" الخبير القانوني المعروف، لأنه لم يفرق بين الواقع (وهو مجال علم الاجتماع) والحقيقة (وهي مجال علم القانون) وأنه فقط كان يهتم بدراسة الظاهرة الاجتماعية دون التبصّر فيها112.
بتعبير آخر؛ إذا جعلنا القانون مجرد ظاهرة اجتماعية، لا تبقى للفرد وبالذات للمشرع أية مسؤولية. ولنا إذاً أن نتساءل ما هو دور الفرد في حركة المجتمع؟ هل هو دور انفعالي سلبي، أم دور فاعل؟ وفي مجال القانون هل على رجل القانون أن يناضل من أجل مبادئ سامية، أم انه يكتفي بتسجيل الظواهر الاجتماعية ويستنبط منها بعض القواعد القانونية؟
مشكلة أخرى في هذه المدرسة، الخلط بين العرف والقانون، وكأن العرف ذات شرعية مساوقة لشرعية القانون. كلا؛ العرف الاجتماعي لا يتمتع بصفة قانونية، إلا إذا وافق النصوص القانونية الموضوعة، أو إذا قام العرف بتفسير تلك النصوص. ذلك أن العرف ليس في درجة القانون، خصوصاً اليوم حيث تعقّدت العلاقات وتسارع تطورّها وكثرت وتشابكت الصراعات، مما يستدعي جهازاً متطوراً لإدارته يتمثل في الجهاز القانوني، ولا يمكن الاعتماد فيه على العرف، الذي ينقصه الوضوح والثبات والشرعية الكافية.
وإذا أردنا أن ننصف المدرسة الاجتماعية، لابد أن نقول: لعلّ المساهمة الفعّالة لعلم الاجتماع في التشريع القانوني، كانت في توصيتها بدراسة الظواهر الاجتماعية لاكتشاف القانون المناسب. ولا ريب إن تقدم علم الإحصاء والمسح الاجتماعي، وتطور وسائل مراقبة الظواهر الاجتماعية، كل ذلك ساهم في أهمية هذا البند، واليوم لم يعد أحد يجهل مدى علاقة التشريع بوعي حركة المجتمع، ومعرفة تطوّراته.
ثمة مشكلة أخرى في المدرسة الاجتماعية، تتمثل في أنه حسب المذهب الاجتماعي الذي يجعل القانون ظاهرة اجتماعية، يختلط القانون الحكومي مع قانون الجماعات غير الحكومية (جمعّيات سرّية - عصابات إجرامية). فاذا كان القانون عرفاً مرسماً، أو بلورة للعرف الاجتماعي، فان نظام العلاقة بين أبناء هذه الجمعيات، أو العصابات لا بدّ أن يعتبر قانوناً، كما يعتبر نظام الدولة الحاكمة قانوناً، مع إن هناك فرقاً أساسياً يفصل بينهما، هو إن أقصى عقوبة تفرضها الجمعية السرية تتمثل في اقصاء العضو المتمرد عن الجمعية، وحرمانه من الانتفاع بخيرات الجمعية. بينما الدولة، تملك قوانين متكاملة قد تتمثل في استعادة الحق من المتمرد (غرامات، ديات)، وهكذا اعتبر البعض هذه النقطة ثغرة في المذهب الاجتماعي.