فلا ينبغي أن يقنط أحدٌ أبداً من رحمة الله، فاليأس والقنوط من رحمة الله -عز وجل- كبيرة من الكبائر. قال سبحانه وتعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56].
وقال تعالى سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن المراد بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. إن العبد يُذنب الذنب ثم يظن أن ذنبه لا يغفر فيترك الاستغفار ويترك الرجوع إلى الله فمِن ثَم يقع في التهلكة (1) والعياذ بالله. وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) فيما يحكي عن ربه -عز وجل- قال: «أذنب عبد ذنبا. فقال: اللهم! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب. فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا. فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك» [رواه مسلم]. وها هو رجل يُكثر من شرب الخمر، فيوتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج البخاري (3) من حديث عمر -رضي الله عنه- : أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه: عبد الله وكان يلقب: حِمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: "اللهم العنه، ما أكثر ما يُوتى به!"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما (4) علِمت أنه يُحِبُ اللهَ ورسوله» (5). وفي رواية: أن رجلاً قال: "مَاله أخزاه الله!"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عَونَ الشيطانِ على أخيكم» (6). فجديرُ بالعبد أن لا يقنط أبداً من رحمة الله -عز وجل-، بل كلما سقط ووقع في ذنب قام واستغفر وأناب، فليس ثَمَّ أحدٌ معصوم من الذنب، وقد قال تعالى في شأن المتقين الذين أعدت لهم الجنان: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. فذكر من صفاتهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136]. فحتى التَّقي قد تصدر منه كبيرة!!، وقد تزل قدمه ويقع في الفاحشة!!، ولكنه يقلع عنها وينيب إلى ربَّه ويستغفر. وها هم المرسلون: قال تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النمل: 10-11]. وموسى الكليم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام قتل نفسا فقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]. وهؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به، قال الله عنهم: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]. ففيه دليل على أنهم عملوا شيئا من السوء ___ (1) أخرج الطبري (3167) بإسناد صحيح عن البراء بن عازب في قوله تعالى: " {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] قال: هو الرجل يصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلكة يقول: لا توبة لي. وفي رواية (3169): "هو الرجل يذنب فيقول: لا يغفر الله له"، وأخرج الطبري ونحوه عن عبيده أيضًا، فأخرج بإسناد صحيح (3174) عن ابن سيرين قال: "سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: "هو الرجل يُذنب الذنب فيستلم ويُلقي بيده إلى التهلكة ويقول: لا توبة له، يعني قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وقال الطبري -بعد أن أورد في تفسير الآية الكريمة-: "وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه نُلق بيديه إلى التهلكة؛ لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف 87]". (2) أخرجه البخاري (7507) ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3) أخرجه البخاري (6780). (4) نقل الحافظ ابن حجر في (ما) هنا أقوال، أقربها: ما أنقله في إعراب الجمع أن ما قال: "ما" زائدة، أي: فوالله علمت أنه والهمزة على هذا مفتوحة قال: "ويحتمل أن يكون المفعول محذوفًا، أي: علمت عليه أو فيه سوءً، ثم استأنف فقال: "إنه يحب الله ورسوله". (5) عند أبي يعلى (1/161) من طريق: هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر: أن رجلاً كان يلقب حماراً، وكان يُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكَّة من السمن والعكَّة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاها جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "يارسول الله، أعط هذا ثمن متاعه. فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبتسم ويأمر به فيعطى... فذكر الحديث وفي آخره: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله". وإسناده حسن. (6) هي عند البخاري (6781)