خوان كارلوس في شفشاون
أحمد ، رجل كهل في وسط العمر، من أهالي مدينة شفشاون الجميلة ، يملك دكانا في زقاق منحدر، جدرانه بيضاء ،أبوابه زرقاء، كسائر أزقة مدينة شفشاون العتيقة التي يشتنشق عبق تاريخها العطر مع هبة كل نسمة، وانبعاث كل صبح ، وحلول كل مساء.
زقاق مختلف الأجواء، كله حيوية ونشاط ، يعج بالسياح من جميع أقطار العالم ، وخصوصا في فصل الصيف ، توجد فيه فنادق نظيفة ، وبازارات مختلفة ، ودكاكين صوف وأقمشة ، وعلى رأس هذا الزقاق يتربع دكان أحمد ، الصغير.
كان يحترف فيه مهنة الكتابة العمومية وبيع الكتب لمدة ليست بالقصيرة، أحب هذه المهنة حبا جما، كان أعزب آنذاك، وحينما تزوج وأنجب أطفالا لم يعد دخل مهنته يسد الاحتياجات الضرورية لأسرته التي كانت تتوسع شيئا فشيئا . وبعد تفكير عميق قرر أن يهجر الوطن والأهل والأحباب عساه أن يحسن
من وضعه الاقتصادي ويرفع من معنوياته ومعنويات أسرته الصغيرة.
سافر إلى إحدى البلاد العربية فمكث فيها سنة ونصف ، فخانه الحظ هنالك ولم يجن إلا ألم الغربة والوحشة ، وقليلا من المال أوصله إلى دياره.. لكنه تعلم الكثير الكثير...
عاد إلى مدينته الجميلة شفشاون ، قبلة السياح الأجانب . الأمر الذي تفطن إليه مِؤخرا.
حول المشروع من الكتابة العمومية ومكتبة إلى مطعم للوجبات الخفيفة وبعض الحلويات والمشروبات الغازية.
أخلص في عمله ومنحه كل طاقاته الكامنة ، فنجحت الفكرة وتألق المشروع الجديد.
عمل على أن يجعل مطعمه الصغير نموذجا رائعا يحتذى به ، فاستقطب كثيرا من الزبائن، نساء ورجالا ، من الأهالي والسياح بنظافته وبريقه وجودة طعامه وحسن نظامه ومعاملته.
ومن مستملحاته وكلماته المشهورة ، التي كان يضبط بها عمله في مطعمه الصغير، ويداعب بها زبناءه أثناء الازدحام:
ـ أيها الإخوة الأفاضل : أعنوني بالمحافظة على النظام، فالطابور ـ أي الوقوف في صف واحد ـ ليس عيبا ، انه سلوك حضاري راق .
الذي يليه... صاحب النوبة يتفضل مشكورا.
مرحبا أهلا وسهلا.. هنيئا مريئا...
تحياتي... مع ألف شكر...
كان هذا الكلام يزيد الزبائن من الأهالي إعجابا واحتراما للمحل وصاحبه . ولقد أعد نافذة وكتب عليها :"النافذة خاصة بالنساء" وذلك حتى لا يحدث اختلاطهن بالرجال فيخدش الحياء؟...
أما الأجانب فكان يخاطبهم بصوت موسيقي عذب ، وبكلمات تارة اسبانية وتارة انجليزية :
ـ شطائر لذيذة وحلويات ممتعة...
مرحبا بكم في بلادكم...
الناس الطيبون من خلال وجوههم يعرفون...
فكان هذا الكلام يثلج صدورهم فيحسون كأنهم في أوطانهم وبين ظهران أهليهم وذويهم، فيقبلون عليه زمرا وأفرادا نساء ورجالا ضاحكين فرحين مسرورين فيأكلون ويشربون بسخاء ويلتقطون صورا للذكرى...
وذات يوم ، وفي ساعة لا ازدحام فيها أقبل عليه أحد السياح الأجانب ، كان شابا فارع الطول في الثالثة والعشرين من عمره ، وسيما ، قوي البنية ، حلو الحديث والمداعبة، ملامحه كانت تبدو بحرأوسطية ، فألقى التحية باللغة الاسبانية ، ونظر إلى قائمة الوجبات السريعة المرصودة أمامه ، وطلب منها وجبته ثم جلس على أقرب كرسي وطاولة من صاحب المحل.
أحمد ، كان يعد الوجبات بنفسه رفقة غلام كان يساعده . قدم لزبونه الظريف ، وجبته السريعة ، ولاطفه بكلمات الترحيب وسلامة وصوله بلسان اسباني طليق . فشكره السائح ثم قال له فاتحا الحوار:
ـ هل أنت من اسبانيا؟
ـ لا، أنا لست اسبانيا أنا مغربي ولدت هنا في مدينة شفشاون ، وأنت ؟
ـ أنا اسباني من مرسيا .
ـ أهلا وسهلا ..
ارتوى الاسباني من قنينة ماء كانت معه و التهم ما تبقى من الوجبة اللذيذة التهاما فامتد ت يده إلى ورق المسح فنظف بها فمه وأصابعه ثم قال:ـ ظننتك اسبانيا أو من بلاد أوروبية بحرأوسطية أخرى كايطاليا أو البرتغال.
ابتسم أحمد ابتسامة عريضة صادقة وأردف قائلا:
ـ أيمكن لضيفنا العزيز أن يوضح لي سبب سؤاله هذا والدافع إليه؟
ـ رأيت محلك نظيفا ومرتبا كما أن طعامك له مظهر جميل ولذيذ، وتتكلم الاسبانية بطلاقة.
ـ أشكرك على هذه المجاملة.
ـ لا يا سيدي إنها ليست مجاملة، إنها الحقيقة.
قال المرسي الوسيم هذه الكلمات المنصفة وهو يتناول بعض الحلوى من دولاب زجاجي كان على مقربة منه.
فقال أحمد لزبونه المتميز بنبرات هادئة:
ـ هل يسمح لي ضيفنا العزيز أن أشرح له أمورا أتت ضمن حديثه الشيق؟
ـ تفضل.. تفضل.. كلي آذان صاغية.
قال الاسباني هذه الكلمات وهو يفتح علبة السجائر فوضع إحداها في فمه وقدم الأخرى
لأحمد ، فردها عليه هذا الأخير بلطف قائلا:
ـ شكرا لا أدخن... ان تعلم اللغة وطلب العلم كل العلم ، بشقيه.... إضافة إلى النظافة والترتيب وحسن الاستقبال، واحترام الضيف ، وإكرامه إلى غير ذلك من الأخلاق الحسنة فهي مبادئ حثنا الإسلام على تطبيقها ، ومن يفعل ضدها يعتبر مقصرا ان لم يكن عاصيا ، كآكل الربا أو لحم الخنزير، وشارب الخمر ومتعاطي المخدرات وغيرها من الرذائل...
ـ إني أعلم أن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير حرام في دينكم ، لكني لم أكن أدري أن تناول المخدرات حرام عليكم ، فالمشهور أنها من ثقافتكم ! وهل هي حرام مطلقا ؟
ـ أجل ، إنها حرام بإجماع العلماء ، والأطباء ، والعقلاء، من المسلمين.
ـ فلماذا إذن تزرعونها في بلادكم لتخرب عقول شبابنا بعد أن حطمت عقول شبابكم !؟
ـ هذا صحيح ، و لم يعد خفيا على أحد ، فشوارعنا ملأى بالمجانين جراء ذلك، إنها آفة العصر ، فلا توجد أسرة تحت هذه القراميد ـ وأشار إلى البيوت من حوله ـ إلا وفيها مدمن أو مدمنين على الأقل ، سمعت ذات يوم أحد الأصدقاء يحكي قصة شاب تخرج من مدرسة تكوين المعلمين ، فتم تعيينه في منطقة من مناطقنا هذه مدرسا ، الكل كان يشهد له بحسن الخلق و اتزان العقل ، بيد أنه كان يدخن السجائر. وفي يوم من الأيام ، أهدى له فلاح قطعة حشيش ، جرب تعاطيها فمضت عليه السنوات وهو يدخن لفائف الحشيش ، حتى أصبح خريجا لمدرسة المدمنين أيضا ، وبات يتعاطى كمية مهولة من الحشيش إلى أن أصابه الجنون ، لقد جننته الحشيش تماما.
فقال الفتى المرسي ، وهو منفعل بعض الشيء وكأن حكاية الشاب المدرس أخذت من قلبه مأخذا :
ـ لم تجاوب على سؤالي فلماذا أنتم تزرعونها؟
ـ المشكلة يا صاحبي أن كثيرا من سكان البادية بمناطقنا أو في جل شمال المغرب تقريبا حتى لا أعمم، يتجاهلون حرمة هذه المادة السامة، "الكيف" القنب الهندي ، أقول يتجاهلونها ولا يجهلونها ، فالحلال بين والحرام بين في ديننا ، فهؤلاء الفلاحون الصغار لا يهمهم شيء إلا الربح السريع ، والعيش الرغيد ، ضاربين بالمثل العليا عرض الحائط ، متذرعين بعدم صلاحية أراضيهم للزراعة ، مدعين أنها لا تنبت إلا نبات "الكيف" ، وتناسوا ما جاء في قوله تعالى:
[ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ]، إنهم في الحقيقة لم يستغنوا بزراعتهم الحشيش، فأكثريتهم لا زالت تعاني من شظف العيش و عدم الأمن والآمان ، أما المستفيدون الحقيقيون فهم أولئك الأباطرة ، تجار الحشيش الكبار. نرجو لنا ولهم الهدى والتقى...
ـ لم أسمع قط مثل هذا الكلام ولم يقله لي أحد قبلك في هذا البلد أو غيره .
ـ كان علي أن أوضح لكم الأمور لتصحح معلوماتك عنا وعن ديننا الحنيف .
ـ شكرا.. أنا اسمي: خوان ، خوان كــــــــــارلوس . وأنت ؟
ـ أنا أحمد.
ـ تسعدني معرفتك.
ـ وأنا كذلك.
نظر خوان إلى واجهة المحل الخارجية حيث كان يوجد على رفوفها زجاجات من المشروبات الغازية وأخرى من عصير خوخ فصاح مندهشا:
ـ انظر.. انظر إلى هذا العصير ، إنها بضاعة مدينتي لقد صنعت في مرسيا.. هل تسمح لي سيد أحمد أن آخذ صورة معك وبيدي هذا العصير؟
ـ بكل سرور .
أعطى كارلوس آلة التصوير لجار في الزقاق يبيع الأقمشة فالتقط لهما صورة رائعة.
ـ حسنا يا سيد أحمد ، نلتقي على وجبة أخرى .. أريدها أن تكون دسمة في المرة المقبلة .
ـ إنشاء الله.
ـ الحساب من فضلك .
ـ تفضل .. مرحبا بكم في وطنكم الثاني...
دفع كارلوس الحساب وأمارة الاطمئنان والانشراح كانت بادية على وجهه ثم ألقى تحية الوداع وانصرف.